وزادت الأمور تعقيداً مع دخول مجموعات مسلحة من العشائر العربية إلى خط المواجهة، ما رفع منسوب التوتر وأضعف فرص تثبيت الهدنة.
وكانت رئاسة الجمهورية السورية قد أعلنت، في وقت سابق اليوم، وقفاً شاملاً وفورياً لإطلاق النار في السويداء، داعية جميع الأطراف إلى التزام القرار، وتسهيل دخول مؤسسات الدولة وقواتها إلى المنطقة.
وبدأ بالفعل انتشار عناصر الأمن الداخلي في بعض المناطق، في محاولة لضبط الأوضاع. كما حذّرت الحكومة من أن أي خرق للاتفاق سيُعَدّ انتهاكاً مباشراً لسيادة الدولة، مؤكدة سعيها لاحتواء التوتر واستعادة الاستقرار.
في السياق نفسه، أصدرت العشائر السورية بياناً أكدت فيه التزامها الكامل قرار وقف إطلاق النار، وحرصها على حقن الدماء وإنهاء حالة الاقتتال، تمهيداً لعودة آمنة وفتح مسار لحوار وطني شامل.
وأكد البيان أن أبناء العشائر "لم يكونوا يوماً دُعاة حرب، بل تحركوا دفاعاً عن كرامتهم، وقدموا تضحيات من أجل السلم الأهلي ووحدة البلاد".
غير أن المرجع الديني البارز، الشيخ حكمت الهجري، أصدر بياناً منفصلاً أعلن فيه التوصل إلى اتفاق مختلف جرى بوساطة ما سماها "الدول الضامنة"، ويقضي بانتشار قوات الأمن العام خارج الحدود الإدارية للسويداء لمنع أي تسلل، ومنع دخول جهات خارجية إلى القرى الحدودية لمدة 48 ساعة، مع ضمان خروج آمن لمن تبقى من أبناء العشائر داخل السويداء.
وتعود جذور التصعيد إلى اشتباكات اندلعت قبل أيام بين فصائل درزية محلية ومجموعات من عشائر البدو، بعد حادثة توقيف واعتداء طالت سائق شاحنة من أبناء العشائر، أعقبها عمليات خطف متبادلة وتطور سريع إلى مواجهة مسلّحة واسعة.
وقد انخرطت قوات من العشائر في المواجهات إلى جانب الدولة السورية، متهمة الفصائل الدرزية بارتكاب انتهاكات بحق سكان البدو في ريف السويداء.
وبينما كان من المفترض أن يُنهي الاتفاق القتال، أفادت وكالة الأنباء الرسمية (سانا) بأن الاشتباكات تجددت بعد ساعات فقط من إعلان وزارة الداخلية بنود التهدئة، التي شملت تكليف بعض الفصائل المحلية ومشايخ العقل بمسؤولية حفظ الأمن في المحافظة.
ميدانياً، رُصدت موجة نزوح واسعة لعائلات بدوية غادرت السويداء إثر الاعتداءات والتهديدات التي تعرّضت لها من مجموعات مسلحة.
وأكدت الأمم المتحدة، في بيان رسمي، نزوح أكثر من 2000 عائلة من مناطق الاشتباك، محذّرة من تدهور الوضع الإنساني وسط صعوبات حادة في إيصال المساعدات، ونقص شديد في المياه، واكتظاظ في المستشفيات.كما أعلنت المنظمة الدولية عن إجلاء طواقمها العاملة في ريف السويداء لدواعٍ أمنية.
الشرارة الأولى
اندلعت شرارة التصعيد في محافظة السويداء يوم 11 يوليو/تموز إثر توقيف سائق شاحنة خضار من أبناء عشائر البدو والاعتداء عليه، ما أثار موجة من الغضب قابلتها فصائل محلية من أبناء الطائفة الدرزية باختطاف ثمانية من أبناء العشائر، وردّت الأخيرة باحتجاز خمسة من أبناء الدروز، لتتفجر على إثر ذلك حالة من التوتر الحاد في المحافظة.
فشلت جهود الوساطة العشائرية والمحلية، واندلعت اشتباكات عنيفة في غرب السويداء ومركز المدينة، أوقعت عشرات القتلى والجرحى من الطرفين.
ومع تفاقم الموقف، تدخلت الحكومة السورية في 14 يوليو/تموز للمرة الأولى منذ اندلاع المواجهات، بنشر قوات من وزارتَي الدفاع والداخلية بهدف فرض السيطرة الأمنية، بعد أشهُر من الانكفاء بسبب تفاهمات سابقة منعتها من التدخل المباشر.
وفي اليوم التالي، رفض حكمت الهجري الاتفاق الذي رُوّج له باعتباره مدخلاً للتهدئة، ودعا إلى مواصلة القتال، ما أسفر عن تصعيد كبير خلّف مئات الضحايا خلال أيام قليلة.
وحذّرت وزارة الداخلية السورية في بيان رسمي من أي انتهاكات أو اعتداءات على الممتلكات العامة والخاصة، متوعدة بمحاسبة كل من يثبت تورطه دون تهاون أو استثناء.
التطورات الميدانية لم تكن بمنأى عن السياق الإقليمي المتوتر، إذ تزامنت مع غارات جوية إسرائيلية استهدفت مبنى هيئة الأركان، ووزارة الدفاع، ومحيط القصر الرئاسي في دمشق.
وقد وصف وزير الدفاع الإسرائيلي هذه الغارات بأنها "رسائل تحذير" موجهة إلى حكومة دمشق، في خطوة رأى فيها مراقبون محاولة للضغط على القيادة السورية لوقف عملياتها العسكرية في الجنوب.
ويرى الدكتور سمير العبد الله، مدير قسم تحليل السياسات في المركز العربي لدراسات سوريا المعاصرة، في حديث لـTRT عربي، أن التدخل الإسرائيلي المتزامن مع الأزمة الداخلية يعمّق تعقيد المشهد، مشيراً إلى محاولات إسرائيل توسيع نفوذها في الجنوب السوري من خلال التواصل مع بعض المكونات المحلية.
وفي 16 يوليو/تموز أعلنت وزارة الداخلية السورية التوصل إلى اتفاق تهدئة برعاية وسطاء محليين، يتضمن وقف إطلاق النار، ونشر حواجز أمنية داخل المحافظة، وإدماج السويداء إدارياً وأمنياً ضمن مؤسسات الدولة، إضافة إلى تشكيل لجان مشتركة من الحكومة ومشايخ العقل لمتابعة تنفيذ الاتفاق والتحقيق في الانتهاكات.
كما نص على تنظيم السلاح الثقيل، واحترام حرمة المنازل، وتأمين طريق دمشق-السويداء، وضمان الحقوق الأساسية، والكشف عن مصير المعتقلين والمغيبين.
الاتفاق حظيَ بترحيب عربي وإقليمي، إذ أعلنت وزارات خارجية دول عدة دعمها الكامل لوحدة سوريا وسلامة أراضيها، مرحّبة بالاتفاق بوصفه خطوة نحو إعادة الاستقرار.
كما عبّر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن دعمه الصريح لسوريا، مشيداً بقيادة الرئيس أحمد الشرع، ومتهماً إسرائيل بالسعي لعرقلة التهدئة عبر استغلال ملف الدروز لفرض أجندتها في الجنوب السوري.
بدوره، أعلن وزير الخارجية التركي هاكان فيدان عن وجود "خريطة طريق جديدة" في سوريا، وصفها بأنها ستكون نموذجاً في التاريخ، وأوضح أنها جاءت ثمرة تنسيق تركي–دولي، شمل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والسعودية.
ورغم هذه التصريحات فإنّ التصعيد الميداني لا يزال مستمراً، وسط دعوات داخلية وخارجية لوقف فوري للعنف، ومحاسبة عادلة، وحماية المدنيين، مع مطالبات بحصر السلاح بيد الدولة باعتباره شرطاً أساسياً لإنهاء الفوضى.
وفي هذا السياق، يلفت الدكتور سمير العبد الله إلى أن جوهر الأزمة في السويداء يعود إلى انقسام داخلي بين قوى تطالب بعودة الدولة، وأخرى تعارضها، وعلى رأسها حكمت الهجري والمجلس العسكري المحلي، الذي يُتَّهَم بعض عناصره بالانخراط في أنشطة خارجة عن القانون.
ويرى العبد الله أن غياب اتفاق واضح في السابق وفّر بيئة خصبة لانفجار المواجهات، ويؤكد أن الحكومة السورية مُطالَبة اليوم باتخاذ خطوات ملموسة لاستعادة الثقة، من خلال حوار وطني حقيقي.
ويختم العبد الله بتأكيد أن ما جرى في السويداء لا يمكن اعتباره أزمة عابرة، بل هو تعبير عن خلل أعمق في العلاقة بين المركز والأطراف، وأن هذه "المعضلة البنيوية" لا تزال قائمة في مناطق مختلفة من الجغرافيا السورية، من الجنوب إلى شرق الفرات، ما لم يُفتح مسار إصلاح سياسي شامل يعالج جذور الأزمة.
ومنذ الأحد الماضي، تدور اشتباكات دامية بين عشائر بدوية ومجموعات درزية، تطورت إلى عمليات انتقامية، فيما عرقلت غارات جوية شنتها إسرائيل على محافظات سورية بزعم "حماية الدروز" جهود القوات الحكومية لاحتواء الأزمة.
وتصاعدت الاشتباكات بين العشائر العربية والجماعات الدرزية في السويداء عقب انسحاب القوات الحكومية بموجب اتفاق مع الجماعات المحلية بالمحافظة.
وأفادت الشبكة السورية لحقوق الإنسان أمس الجمعة بمقتل ما لا يقل عن 321 شخصاً في اشتباكات السويداء.
وفي إطار مساعيها للحل، أعلنت الحكومة السورية سابقاً 3 اتفاقات لوقف إطلاق النار بالسويداء، وتضمن ذلك سحب القوات الحكومية من المحافظة "استجابة لوساطة عربية وأمريكية"، ليكون اتفاق اليوم هو الرابع منذ الأحد الماضي.
لكن التهدئة لم تصمد طويلاً، إذ تجددت الاشتباكات الجمعة إثر تهجير مجموعة تابعة لحكمت الهجري، أحد مشايخ الدروز في السويداء، الذي يتبنى توجهاً انفصالياً، عدداً من أبناء عشائر البدو من السُّنة.
ويُعرف الهجري بمواقفه التحريضية ضد الحكومة الجديدة في سوريا، فيما ترفض الفاعليات الدرزية أي تدخُّل خارجي في شؤون البلاد، وتؤكد أن الدروز مكون وطني في هذا البلد العربي.