التدويل الذي شهدته قضية دارفور وتدخل أطراف عديدة أدّى إلى ازدياد حدة النزاع خلال السنوات الماضية، بيد أنه بعد سقوط النظام السابق، ومجيء حكومة جديدة في السودان، لم يكُن أكثر الناس تشاؤماً تجاه ذلك التغيير، يتوقع أن يستعيد إقليم دارفور غربي البلاد، ذاكرة القتل الجماعي والقتل خارج نطاق القانون، مثلما حدث بداية الأسبوع الحالي في ولايتي غرب وجنوب دارفور.
ففي ولاية غرب دارفور سقط 159 قتيلاً وأصيب أكثر من 200، نتيجة عنف قبلي بدأت نيرانه تشتعل من مدينة الجنينة عاصمة الولاية، بمشاجرة عادية بين شخصين من قبيلتين مختلفتين، فتطورت حدتها، وانطلقت حملة انتقامية ضد قبيلة القاتل، لتدور اشتباكات دامية لثلاثة أيام وتحصد الأرواح من الطرفين، وتشيع الفوضى في المدينة.
وقبل أن يستفيق السودانيون من صدمة "الجنينة" تكررت الواقعة بكل تفاصيلها، مع اختلاف الأطراف، كما تَغيَّر مسرح الحادث من الجنينة المدينة، إلى الطويل، وهى قرية صغيرة بولاية جنوب دارفور، والسبب كما هو، مقتل راعٍ، والحصيلة النهائية مصرع 57 شخصًا وعشرات المصابين من القبيلتين.
ومن المصادفات السيئة أن الحادثتين ما هما إلا صورة كربونية لما وقع العام الماضي بذات الطريقة والدوافع والأسباب، وفي ذات المناطق وفي نفس التاريخ.
لا تضع تلك الوقائع أمن إقليم دارفور وحده على المحك، بل تمثّل اختباراً جدياً لقدرة وإرادة السلطة الانتقالية التي تشكلت في السودان بعد الثورة الشعبية التي أسقطت نظام الرئيس عمر البشير في أبريل/نيسان 2019، فتلك السلطة، وبتقديرات الكثيرين، عاجزة عن التعاطي الفعلي والموضوعي، مع أمهات القضايا الحديثة أو الموروثة، ناهيك بتلبية طموح الشعب السوداني في السلام والتنمية والحرية والعدالة.
وفي إقليم دارفور، الذي شهد منذ العام 2003 واحدة من أسوأ الحروب الأهلية بتمردها وأُزهِقَت فيها أرواح وسالت فيها دماء كثيرة، لم تطرح، أي الحكومة، حلولاً للإقليم، سوى التوقيع على اتفاق سلام مع حركات متمردة، يواجه الاتفاق نفسه مصاعب جمة لعدم اكتماله، بتوقيع حركة رئيسة هي حركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد نور التي تتخذ من باريس مقرّاً لها، والتي لا تزال ترفض التفاوض مع الحكومة، بحجة عدم وجود ضمانات حقيقية لتنفيذ الاتفاق، لا سيما الضمانات المرتبطة بالمراقبة والإشراف والتمويل لعمليات إعادة ما دمرته الحرب، ولعمليات الإدماج والتسريح، وكذلك صعوبة تشكيل قوات مشتركة من الطرفين لحفظ السلام وحماية المدنيين، نُظر إليها لأن تكون بديلاً للقوات الأممية.
وعلى غير قضية التعاطي مع ملف الحرب والسلام في الإقليم، تبدو قضية تسليح القبائل والمليشيات، وانتشار السلاح في أيدي المدنيين، هي الملف الأكثر تعقيداً، الذي يلعب دوراً حاسماً في تغذية النزاعات القبلية في دارفور.
وطبقاً لتقديرات 2017 التي أصدرتها منظمة مسح الأسلحة الخفيفة، ومقرها جنيف، فإن بالسودان نحو 2.76 مليون قطعة سلاح غير شرعي، ومن دون شك أن النسبة الكبرى من ذلك الرقم المهول، موجودة في دارفور التي تنفتح حدودها مع دول تعاني سيولة أمنية، مثل ليبيا وإفريقيا الوسطى، ما يجعل الأبواب مشروعة على مصاريعها لتهريب السلاح إلى داخل الإقليم، ليصل بعد ذلك إلى القبائل وأمراء الحرب.
لم تقُم الحكومة السودانية الانتقالية بالجهود اللازمة لجمع السلاح، عدا تكوين لجنة عليا لجمع السلاح، عمادها قادة الأجهزة الأمنية والعسكرية، ولم تتخذ تلك اللجنة غير الطلب من المدنيين التطوع بتسليم أسلحتهم، أعقب ذلك تنظيم اللجنة لاحتفال شكلي بإبادة 300 ألف قطعة سلاح، لكن الذي يتكشف عقب كل نزاع، أن المتبقي أكثر بكثير في أيدي القبائل بما في ذلك الأسلحة الثقيلة، ما يؤكد حقيقة أن العنف القبلي الذي حصد حياة آلاف السودانيين لن يتوقف ما لم يبقَ السلاح في أيدي قوات الشرطة والجيش والأمن وحدها.
ويحتاج كل ذلك إلى إجراءات لا تقتصر على الجمع الطوعي، والنزع الإجباري، بل يتعداه إلى مراقبة حدود السودان الغربية حيث يتدفق السلاح كما يحتاج إلى مقاومة ثقافة سباق التسلُّح والتسليح المتجذرة عند كثير من قبائل دارفور، وذلك بالتوعية وسيادة حكم القانون، عدا العمل على تحقيق المصالحات القبلية وإعلاء قيم التعايش السلمي بعد سنوات من مرارات الاحتراب والتخاصم.
لا تتوقف أسباب النزاعات القبلية في دارفور على انتشار السلاح والتمرد والاحتقان القبلي وثقافة القبائل وحدها، فهناك أسباب أخرى، أهمها هشاشة الانتقال السياسي في السودان، من عهد شمولي إلى عهد ديمقراطي، إذ أثبتت حكومة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك الأولى، فشلها حتى في إدارة كثير من الملفات السياسية والاقتصادية والأمنية، وإن نجحت في خلافها من الملفات الخارجية بإعادة السودان إلى المجتمع الدولي ورفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وهو تصنيف أمريكي وضعته فيه واشنطن منذ العام 1993.
ويبدو أن الإخفاق الداخلي سيلازم حكومة حمدوك الثانية التي كان مقرراً تشكيلها بنهاية العام الماضي، إلا أنها تأخرت نتيجة للخلافات المستمرة حول قسمة الحقائب الوزارية داخل التحالف الحاكم، وأيضاً داخل الحركات المتمردة التي ستنضمّ إلى الحكومة بموجب اتفاق السلام، هذا غير الخلافات العميقة بين المكوّن العسكري والمكون المدني، منذ تشكيل السلطة الانتقالية. والأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تعيشها البلاد. في وقت أعادت فيه الأحداث الأخيرة ملف دارفور لمجلس الأمن الدولي مرة أخرى، مما سيجعل السودان في وضع أقرب للوصاية الدولية.
كل تلك التقاطعات والتباينات وبإقرار رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، تسببت في العجز الاقتصادي وفي الاختلالات الأمنية في دارفور، كما وضحت في تصريحات نائب رئيس مجلس السيادة محمد حمدان دقلو الذي اتهم جهات داخلية حاكمة، لم يسمِّها، بتنفيذ سياسة شدّ أطراف ونشر الفتن في البلاد بغرض تنفيذ أجندة في المركز، لم يحدِّد طبيعتها.
وهن الأحزاب، مع ضعف الثقافة والممارسة السياسية الراشدة، يُعَدّ عاملاً مساعداً في علوّ صوت القبلية، ليس في دارفور وحدها، بل في كل ولايات السودان، وهذا ما وضح جلياً في أكثر من ولاية، مثل ولاية البحر الأحمر شرقي البلاد التي شهدت لأكثر من مرة اشتباكات دموية بين البني عامر والنوبة، وفي ولاية كسلا حيث مُنع واليها من تَسلُّم منصبه، وأقيل من المنصب بعد تحركات قبلية مناوئة له لكونه من قبيلة أخرى، كما تنشط هذه الأيام مجموعات قبلية في ولاية نهر النيل، شمال السودان، من أجل الإطاحة بوالية الولاية د.آمنة المكي. كما أصدر بعض القبائل بيانات تطالب بإطلاق سراح أبنائها المساجين سياسيّاً.
قفز على المشهد الانتقالي في السودان عقب الإطاحة بالبشير أحزاب من اليسار تفتقر إلى السند الجماهيري وتعمل على إطالة الفترة الانتقالية، للبقاء في السلطة دون انتخابات، وإذا استمرّ غياب الأحزاب السودانية ذات الثقل، فضلاً عن عدم تواصلها مع قواعدها للإبقاء على الأقلّ على الصراعات في حدودها السياسية والفكرية، فليس من المستبعد تصاعد مكانة القبيلة وتعاظم أدوارها في الفترة المقبلة في السودان، ومن ثم تقاطع مصالحها، وكله يؤدّي إلى طريق واحد، هو حرب القبائل.