مشياً على الأقدام، سار معتز الكفارنة أكثر من 35 كيلومتراً سعياً وراء طرد غذائي، من شمال القطاع إلى جنوبه، بدأها والحجيج ينزلون من جبل عرفات وأنهاها مع صباح عيد الأضحى.
نجح الكفارنة في الحصول على الحصة الغذائية، التي لا تسدّ إلا جزءاً يسيراً من حاجته، لكنه عاد معها محمّلاً بذكريات وأسئلة، ومشاهد شاركها لأول مرة على صفحته في "فيسبوك" الأحد الماضي، وننقلها هنا كاملة كما كُتبت.
فخلال الأيام الماضية، تسبّبت آلية توزيع المساعدات في استشهاد أكثر من 130 مدنياً برصاص مباشر في أثناء محاولتهم الوصول إلى طرود غذائية على حواجز الإذلال والقهر، فيما أصيب قرابة 1000 مدني آخر، بحسب ما أفاد به المكتب الإعلامي الحكومي.
(١)
مرة أخرى، سأكتب بمرارة تجربتي للوصول إلى المساعدات في مركز المساعدات الأمريكي جنوب غزة، إذ سأكتب بثقل في مقالة طويلة لكنها مملوءة بأحداث مُرَّة وقاسية.
اضطرتني الظروف أن أسير في طريق الألم تماماً كطريق عذابات المسيح عليه السلام في نُكرانه وبِشاراته، وعذابات محمد عليه الصلاة والسلام في تخلي القريب عنه ومحاربته ومحاصرته، وعذابات إبراهيم عليه السلام بإلقائه في النار من دون شفيع. حقيقةً، إن العذابات التي يعيشها أهل غزة لا تقل عن عذابات أنبياء أولي العزم.
طريقي بدأ يوم وقفة عرفة، 05-06-2025، والانطلاق للوصول إلى مركز المساعدات الإغاثية في رفح، بدأنا السير على أقدامنا من منطقة الأزهر، حيث أنزح غرب غزة، بعد صلاة مغرب اليوم المذكور، وكلنا أمل أن نجد أي وسيلة مواصلات تنقلنا باتجاه جنوب غزة عبر شارع الرشيد، سواء دراجة نارية ثلاثية العجلات (توكتوك - تروسيكل) أم عربة تجرها الدواب، إذ تُمنع السيارات من السير على ذلك الطريق. لكن للأسف، لم نجد أي وسيلة نقل بأي شكل من الأشكال، فامتدت رحلتنا الشاقة مشياً على الأقدام من غرب مدينة غزة وصولاً إلى منطقة "فيش فريش" في أقصى جنوب غرب خان يونس، وهي نقطة الانطلاق تجاه مركز المساعدات الأمريكي GHF.
وصلنا بعد طول سير امتد من الساعة 7:30 مساء يوم عرفة حتى 2:30 صباح أول أيام عيد الأضحى، وما إن وصلنا حتى بدأ فصل جديد من العذابات، بعد عذاب السير ثماني ساعات لمسافة تزيد على 35 كيلومتراً، إذ كان يجب السير بحذر شديد وصولاً إلى مسجد في المنطقة يُدعى مسجد معاوية، لنستقر في تلك النقطة حتى يُفتح الحاجز لندخل إلى مركز المساعدات.
(٢)
عند وصولنا، أدركنا أنه يجب علينا محاولة الدخول، وفعلاً بدأنا نقترب من الحاجز الإسرائيلي، علّه يكون مفتوحاً، فنستطيع الدخول لنحصل على الطعام، لكننا وجدنا ميكروفوناً إسرائيلياً ينادي ويقول، إن مركز المساعدات مغلق، ولا يوجد توزيع، ويتوجب علينا أن نذهب إلى بيوتنا.
أصحاب الخبرة السابقة أخبرونا أن هذا أسلوب إسرائيلي لتخفيف عدد الناس الموجودين ودفع الأغلبية للمغادرة وإحباط الناس، فلا تغادروا. وهذا فعلاً ما حدث.
فعُدنا إلى مكان تجمعنا السابق قرب مسجد معاوية، وجلسنا حتى قررنا إعادة المحاولة والسير باتجاه الحاجز الإسرائيلي مرة أخرى، علّهم يسمحون لنا بالدخول، فاقتربنا رويداً رويداً، وكان عددنا يتخطى خمسة الآلاف شخص، وعند وصولنا إلى قرب الحاجز، نادى الميكروفون الإسرائيلي مرة أخرى: "عودوا، فالمركز مغلق"، وبدؤوا يشتموننا ويسبّوننا، وقالوا إنهم سيطلقون النار علينا خلال ثلاث دقائق إن لم نغادر المكان.
وقبل أن يكملوا تحذيرهم، وقبل أن نستطيع التحرك، بدأ إطلاق النار بشكل مباشر علينا من دون أي رحمة أو شفقة.
فالتفتُّ حولي لأجد عشرات الإصابات، وأصوات صرخات المصابين ينادون بأن ينقذهم أحد، لكن لا أحد يستطيع رفع رأسه من كثرة إطلاق النار وصوت الأزيز فوق الرؤوس. وما إن هدأ إطلاق النار قليلاً، حتى استطاع الشباب إخلاء المصابين إلى أقرب نقطة، وهي مركز كبير ومركز للصليب الأحمر الدولي قريب من المكان، لكن الألم الأكبر كان أن من بين المصابين أناساً فارقوا الحياة.
فعُدنا ونفوسنا مكسورة، مُطأطئي الرؤوس، يركبنا الحزن والخوف والألم في الوقت نفسه، فبعض من كان معنا في الطابور نفسه إما أُصيب أو رحل إلى غير رجعة في يوم العيد، هذا العيد الأسود الذي دفعنا جوعنا فيه إلى الخروج لنحصل على الطعام من يد عدونا، طعام مغلّف بالذل والمهانة، بعد أن كنا كِراماً. وفي الوقت ذاته، يغرق العرب في أضاحي عيد الأضحى، ويلهون ويتنعمون من دون أن تلتفت أغلبيتهم لحالنا المرير. لكن لا ضير في أن أكمل قصتي البائسة.
عُدنا وحاولنا النوم على التراب أمام شاطئ بحر رفح الحزين، ننتظر وقت دخولنا المركز، حتى جاءت الساعة السابعة إلا ربعاً صباحاً، وبدأ إطلاق النار بشكل مجنون، مباشر ومكثف وسريع ومخيف، وارتفاعه لا يزيد على متر عن سطح الأرض، فما عليك إلا الانبطاح على وجهك أو التكوّر في وضعية الجنين.
يمر شريط حياتك كله أمام عينيك، تتذكر من يحبونك، تقول: يا ويلي، ليس الموت آخر همومي هذا اليوم، إنما كيف لي أن أموت ولا أعود لأولادي بطعام يسد جوعهم؟ فهم ينتظرونني في مركز الإيواء جوعى، متأملين عودتي حيّاً ومعي بعض الطعام.
تتذكر ضحكاتهم معك وقت تناول الطعام، وكيف تحولت هذه الضحكات إلى بكاء، ونظرات تحسسك بأنك مقصّر ومشارك في جوعهم. فهم أطفال أبرياء، سُذّج، لا يدرون الحقيقة، أنك جائع أكثر منهم، وأن لا حيلة بيدك، وأن ذهابك لهذا المكان الموحش المملوء بالموت ليس إلا محاولة لإطعامهم، فقط لا غير.
(٣)
استمر إطلاق النار من الساعة السابعة إلا ربعاً حتى الساعة الثامنة، ساعة وربع من الرعب المتواصل، أُطلقت خلالها النيران على كل حركة، وبأنواع مختلفة من الأسلحة، في الوقت ذاته الذي كانت فيه أصوات الطائرات تحوم فوق رؤوسنا، كأنها تُذيع النذير الأخير. رعب محيط، خانق، لا يترك لك مجالاً لقول شيء سوى تكرار الشهادتين والدعاء: "حسبنا الله ونعم الوكيل".
وعندما توقف إطلاق النار، قال أصحاب الخبرة: هذا هو وقت الدخول.
كان الدخول مشهداً سينمائياً في ذروة التراجيديا، لم تصوّره ملاحم الرومان ولا مآسي الإغريق، ولا حتى "الكوميديا الإلهية". عليك أن تخرج جرياً من المكان الذي احتميت فيه من الرصاص، الركض هو وسيلتك الوحيدة للوصول، مسافة تتجاوز الكيلومترين، وفي الطريق ترى شباباً ملقين على الأرض، على وجوههم، لا يحملون سوى كيس بلاستيكي أبيض، كان يُفترض أن يعودوا به ممتلئاً بما حصلوا عليه من مركز المساعدات.
الجرحى بعضهم مرمي يصارع نزفه، وآخرون يحاولون إسعاف أنفسهم إذا أصيبوا في القدم أو الذراع، ورغم ضجيج وقع الأقدام والنعال على الطريق، تسمع أنين المصابين يخترق كل ذلك الصخب، ضميرك يتشظى كصفحة ورقية مزّقتها يدٌ قاسية، إنسانيتك تتبدد كما الرماد في مهبّ الريح.
تجري.. تجري كالدواب نحو فتحة الخلاص، نحو الطعام. ترى الضحايا والمصابين، لكنك لا تستطيع النظر إليهم، لا لقصور في قلبك، بل لأن أي توقف يعني أن من خلفك سيدفعك، وربما يسحقك تحت قدميه بلا شفقة، أو أنك ستكون هدفاً للرصاص، أو ببساطة، لن تصل.
لا بد أن تركض، رافعاً يديك، رافعاً الكيس الأبيض، ذلك الكيس الذي صار رمزاً للاستسلام، وإشارة إلى أنك مدني، لم تأتِ إلا لأجل ما يُسمّى "حصتك من الطعام"، دابة تنتظر فتح معلفها في حظيرة خالية من الأخلاق، من الرحمة، من المشاعر.
وحتى تلك اللحظة، لم يكن أحد يعرف إن كان سيخرج حياً أو إن كان ذلك السباق هو نفقه الأخير.
(٤)
تصل إلى الحاجز الإسرائيلي، ثم تنعطف بعدها يساراً، لتجري مسافة كيلومتر إضافي، ثم تنعطف يميناً لتجري كيلومتراً ثالثاً، لتصل إلى الحاجز الأمريكي، ستجدهم كما صورتهم أفلام هوليوود، محمّلين بصنوف الأسلحة، يضعون النظارات السوداء، يلبسون الدروع، عليها علم أمريكا، وخلف آذانهم سماعات، يوجّهون سلاحهم إلى صدورنا العارية، ويطلقون النار تجاه الأرض تحت أقدام من يحاول التقدّم والوصول إلى المساعدات التي تتموضع خلف تلة يقفون عليها.
تراجعوا رويداً رويداً وهم يوجّهون السلاح إلينا، وتركونا تماماً كما يفعلون في حلبات الروديو لتنطلق الثيران، لكننا بشر، حقيقةً بشر، يحاولون نزع البشرية منا وتحويلنا إلى كائنات أقل من الدواب مرتبة، فلا نظام، ولا أخلاق، ولا أي شيء، هياكل من الجياع تجري لتقتات من أي فتات يصله، حتى لو كان من يد قاتله.
بعد تراجعهم وإخلائهم الطريق لنا لنصعد التلة التي يضعون خلفها المساعدات، يتحوّل كل من في الطابور إلى الصنف ذاته سالف الذكر، وحوش تتزاحم للقضم من فريسة ملقاة أمامهم، فعليك الجري بكل ما أوتيت من عزم، لتلحق بصندوق فيه بعض الطعام، لا تنظيم، ولا مساواة، ولا عدالة.
قانون الغاب هو الحاكم، وما إن تحصل على الصندوق، يجب أن تفرغه في الكيس الذي تحمله وتهرب من المكان بأقصى سرعة، لأن القادمين خلفك، في حال لم يجدوا صناديق يحملونها، سيهجمون عليك ليخطفوا منك ما تحمل، وإن استطعت أن تجمع ما يقع على الأرض أمامك من الهاربين مثلك، فافعل، لكن من دون أن تتوقف، فإما ستقع وتدوسك أقدام الهاربين، وإما يُسرق ما معك من الجائعين أو قطاع الطرق.
يجب أن تحمل أي سلاح أبيض، سكيناً أو مشرطاً، وأن تكون حذراً، وتسير ضمن مجموعة من أصدقائك أو معارفك أو أقربائك أو من تتفق معهم، ليحمي كل منكم الآخر خلال الطريق، فعلاً، غابة بكل أوصافها، القوي فيها يأكل الضعيف بلا أي رحمة، لقد نزعوا منا كل شيء له علاقة بالإنسانية، وحوّلونا إلى مسوخ بلا روح.
(٥)
بعد أن تغادر أرض الموت في مركز المساعدات حاملاً بعض الطعام، وتفتح الكيس لترى ما حملت، وهنا سأذكر ما حصلت عليه:
2 كيلو عدس
نصف كيلو حمص
2 كيلو دقيق
4 كيلو معكرونة
1 كيلو طحينة
1 لتر زيت قلي (سيرج)
2 كيلو ملح
علبة بازلاء معلبة
علبة فاصولياء معلبة
2 علبة فول معلب
(٦)
هنا ستسقط دمعتك، تغلبك إن كان لديك شيء من بقايا الإنسانية، ستحس بالقهر يمزّق قلبك وروحك بلا رحمة ولا شفقة، ستتقطع شرايين روحك، ستنزف أحاسيسك من دون توقف.
هل لهذا القدر الضئيل من الطعام أُلقي بنفسي في فم الموت؟ أسير عشرات الكيلومترات، أزحف على بطني مئات الأمتار، أركض آلاف الخطوات، أرى جثث الشباب ملقاة على الأرض، أرى الجرحى ولا أستطيع أن أمدّ يدي لإنقاذ أيٍّ منهم؟ يا لسوء ما وصلنا إليه!
ألهذا القدر الشحيح من الطعام مات هؤلاء الناس؟ شباب، يا رب العالمين، شباب وأرباب أسر تركوا أطفالهم في يوم العيد جياعاً، وها هم يعودون إليهم في أكفان، ويبقى أطفالهم جياعاً.
يوم عيد أسود جديد، يوم عيد مرير جديد، يوم عيد يُسمّى عيداً، لكن في غزة لا يشبه أي عيد.
غزة، التي عاشت منذ بدء الحرب أربعة أعياد، كلّها سوداء، لكن هذا العيد أكثرها سواداً وقتامة.
لا تتركنا يا رب، يموت فينا كل شيء، لا تتركنا، نرجوك يا رب، فنحن -بالعرب والمسلمين وبأنفسنا- لا حول لنا إلا بك.