لم تكن مجرد عبارة سياسية، بل اعتراف بقلق ممتد من الحاضر إلى جذر الماضي. أما وزير ماليته بتسلئيل سموتريتش فكان أكثر حدة حين أضاف: "إسرائيل تخوض حرباً وجودية هي الأطول، ومن يطالبها بوقفها إنما يطالبها بإنهاء وجودها بنفسه". لم تعُد الحرب إذاً شأناً حدودياً أو خياراً استراتيجياً، بل باتت مسألة بقاء أو فناء.
غير أن نداء التحذير لم يأتِ من القيادة السياسية فقط، بل من داخل المؤسسة الأمنية ذاتها، وحذّر وزير الدفاع السابق موشي يعلون قائلاً: "الحكومة ستجلب لنا الخراب، ونحن نواجه خطراً وجودياً داخلياً أكثر من الخارجي". هنا، تنتقل المخاوف من ساحات الاشتباك إلى عمق البنية الإسرائيلية، حيث تشتبك الأزمات السياسية والانقسامات المجتمعية مع عقدة الذاكرة لتطرح السؤال الجوهري: هل تواجه إسرائيل خطر الفناء؟
الرعب من تكرار التاريخ
هذا الشعور بالفناء القادم ليس عرضاً طارئاً، بل هو مكوّن بنيوي في الوعي الإسرائيلي، فيصف جاد يائير في دراسته “القلق الوجودي الإسرائيلي” إسرائيل بأنها كيان يعيش باستمرار تحت وطأة القلق من الإبادة. ويضيف: "يعيش الإسرائيليون تحت ضغوط مستمرة، وكأن الوقت ينفد.. نحن نعيش باستمرار في خوف من أن يُبيدنا شخص ما.. وأن هولوكوستاً جديداً قد يحدث في أي وقت.. وإذا لم نكن أقوياء، وإذا لم نكن عدوانيين، فسوف نُقتل".
ولا تقف هذه الرؤية عند حدود النخبة الأكاديمية، ففي نقاشات يائير مع مستوطنين تتضافر إجاباتهم حول مضامين متقاربة: "لا نعتقد أن إسرائيل سوف تبقى على قيد الحياة، ولا نعرف ما إذا كانت ستستمر لفترة طويلة، أو ما إذا كانت ستنتهي قريباً"، وهي تخوفات تعكس قناعات من قبيل "كانوا ضدنا دوماً.. نستعدّ للهولوكوست الثاني.. يريدوننا أن نخرج من هنا".
كذلك يروي جان سمعان في كتابه “سياسة إسرائيل الخارجية في محيط العالم العربي.. الانخراط في الأطراف”، الصادر عام 2017، واقعة لافتة قائلاً: "يميل الإسرائيليون إلى النظر بعين الشك إلى الخطط والاستراتيجيات طويلة المدى. وقد قال أحد الدبلوماسيين لي ساخراً: نحن لا نعرف حتى ما إذا كانت إسرائيل ستظل موجودة في غضون ستة أشهُر، فلماذا يجب علينا تصميم استراتيجية للسنوات العشرين المقبلة؟!".
هذه الحالة من التشكيك الوجودي تأخذ طابعاً أكثر عمقاً في كتاب ديفيد باسيج "السقوط الخامس"، إذ يرى أن إسرائيل ليست سوى فصل خامس في ملحمة فشل يهودي متكرر، وأن الدولة التي أُسِّسَت لتكون ملاذاً آمناً، تموج اليوم بسردية مفزعة عن إمكانية نهايتها، ليس فقط بفعل الأعداء، بل بانفجار داخلي يُعيد تكرار نمط تاريخي من الانهيار الذاتي.
ويحذّر ستيفن ديفيد في دراسته “كيف تموت الدول؟ دروس لإسرائيل”، المنشورة في عام 2016، من أن أكثر من ثلث الدول التي ملأت خرائط العالم في القرن التاسع عشر اختفت لاحقاً، بل ويشير إلى اختفاء وتفكك دول بعد انتهاء الحرب الباردة مثل الاتحاد السوفييتي ويوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا، ويتوجس من أن نفس عوامل التفكيك قد تعرض استمرار وجود إسرائيل للخطر.
ويذهب ديفيد في دراسة أخرى بعنوان “التهديدات الوجودية لإسرائيل: التعلم من الماضي القديم” إلى مزيد من الشرح قائلاً: "إنّ تدمير إسرائيل على أيدي الآشوريين والبابليين والرومان يعزز الدروس الواقعية التي يمكن أن تستفيد منها إسرائيل المعاصرة. وينبّه إلى أنّ إسرائيل تواجه مخاطر مشابهة: الاعتماد على حلفاء قد يتخلون عنها، وصراعات داخلية متصاعدة، واختلال التوازن الديموغرافي، وتنامي التطرف الديني”.
ويشدد ديفيد على خطورة الجماعات اليهودية المتطرفة، قائلاً: "اعتقد بعض هذه الجماعات أنهم يعيشون في نهاية الزمان وسعوا إلى اتخاذ إجراءات عسكرية لتسريع وصول المسيح.... وذبحوا حامية رومانية في عام 66 قبل الميلاد" مما أدى إلى رد فعل روماني عنيف.
ويخلص ديفيد في دراسته عن التهديدات الوجودية لإسرائيل، المنشورة في عام 2012، إلى أن "السعي إلى إقامة دولة إسرائيل الكبرى اليوم من شأنه أن يؤدي إلى تأجيج العلاقات مع جيران إسرائيل، وإثارة الفتنة الداخلية، وتعريض علاقاتها بالولايات المتحدة للخطر، والتعجيل بانفجار القنبلة الديموغرافية الموقوتة".
الجذور النفسية للتهديد.. أربعة عصور من السقوط
نعود إلى باسيج الذي يستند في كتابه إلى بنية تحليلية لتفسير "مزاج الفشل" في التاريخ اليهودي. ويميز بين أربعة أنماط قيادية ارتبط كل منها بعصر تاريخي، وانتهى كل منها بانهيار مشروع السيادة اليهودية:
أولاً: عصر القبائل
وهو عصر ما بعد الخروج من مصر حتى قيام المملكة الأولى (1200-1000 ق.م). واتسم بتشتت القيادة بين قبائل بني إسرائيل الاثني عشر، وعدم وجود سلطة مركزية أو حكومة موحدة، وتكرار الانقسامات والصراعات الداخلية.
وبالتالي تمزقت وحدة الجماعة بسبب العصبيات والانقسامات الداخلية، مما أسفر عن انهيار الفكرة الجامعة وانكشاف الجماعة اليهودية أمام أعدائها، مما ولَّد حاجة إلى سلطة مركزية.
ثانياً: عصر الملوك
من عهد داوود وسليمان عليهما السلام حتى انقسام المملكة اليهودية وسقوطها (تقريباً 1000-586 ق.م). واتسم بظهور سلطة ملكية مركزية، وصراع بين السلطة الدينية ممثلة في الأنبياء والسلطة السياسية ممثلة في الملوك، وحدوث توسع جغرافي تبعه فساد وانحراف ديني.
وفي هذا العصر قُدم الاستقرار السياسي على القيم الدينية والأخلاقية، مما أدى إلى الانقسام بين مملكتَي إسرائيل ويهوذا، ثم سقوط الكيانين في المنفى البابلي والآشوري.
ثالثاً: عصر الكهنة
يمتد ما بعد العودة من السبي البابلي حتى السيطرة الرومانية (تقريباً 538 ق.م-70 م). واتسم بسيطرة المؤسسة الدينية ممثلة في الهيكل والكهنة على الحياة العامة، والتركيز على الطقوس والشعائر أكثر من القيم الروحية، وتدهور العدالة الاجتماعية وبروز النفاق الديني، مما أسفر عن إنهاء الوجود اليهودي في الأرض المقدسة في عام 70م وتدمير الهيكل حسب الرواية اليهودية.
رابعاً: عصر الحاخامات
يمتد من تشتت اليهود بعد "خراب الهيكل" حتى بداية الفكرة الصهيونية في القرن التاسع عشر، واتسم بوجود قيادة دينية غير مركزية في الشتات تتمثل بالحاخامات، وتتصف بالتشدد الديني والحفاظ على العزلة، ورفض مشاريع السيادة السياسية وانتظار الخلاص الرباني.
وانتشر مزاج حاخامي–انعزالي، يتعامل مع الاضطهاد باعتباره قَدَراً، ويُقصي فكرة العمل السياسي المباشر، مما أسفر عن قرون من التهميش دون وجود دولة.
وبحسَب باسيج، ففي كل مرة ينهار المشروع من داخله ويعود اليهود إلى حالة الشتات. هذه السردية ترسّخ شعوراً بالخوف الوجودي يتجاوز المخاوف الجيوسياسية إلى شعور مزمن بأن الاستقرار مستحيل. ولذا حين قامت إسرائيل في 1948 اعتُبرت لحظة انقلاب على النمط التاريخي، ولكنها لا تزال أسيرة موروثات الماضي، بل وتعيد إنتاج أنماط فشله.
الهشاشة البنيوية.. إسرائيل حالة نفسية
وفق ما سبق، لا تكمن المشكلة في قوة الخصم، بل في الطبيعة النفسية الإسرائيلية، فإسرائيل لا تعاني فقط من أزمة شرعية خارجية، بل من شرخ داخلي في السردية الجامعة، وفشلت في توحيد الطوائف اليهودية، أو في صياغة معنى جامع للهوية والسيادة. ويفتش باسيج في أعماق هذه الأزمة، ليكتشف أن الإسرائيليين -خصوصاً القادة- لا يزالون محكومين بمزاجات فاشلة تتكرر كل مرة باسم جديد:
مزاج "القبيلة" الذي يعيد إنتاج صراع الأشكناز والمزراحيم، ومزاج "الكهنة" الذي يُستعاد في الخطاب الديني الذي يهمّش العلمانيين، ومزاج "الحاخام" الذي يتجلى في عزلة الجاليات اليهودية المتدينة عن الجيش والسياسة. وبكلمات أخرى، إسرائيل رغم قوّتها العسكرية المادية تعيش في فوضى داخلية مستمرة، تنتج عن عدم القدرة على تحويل السيادة إلى مشروع مستقر ومتكامل.
محاولة للبحث عن رواية بديلة
لا يتوقف باسيج عند التشخيص، بل يقدم تصوراً لما يسميه "العصر الخامس"، أي عصر السيادة اليهودية الديمقراطية، الذي يفترض أن يتجاوز أخطاء الماضي. ويقترح لذلك ضرورة بناء سردية جديدة للهوية تتجاوز المزاجات التقليدية الأربعة. ولكن هذه المقترحات، وإن بدت عقلانية، فإنها تصطدم بواقع سياسي واجتماعي معقد. فالانقسامات بين الحريديم والعلمانيين، وبين اليهود الشرقيين والغربيين، وبين القوميين واليساريين، أعمق من أن تُحَلّ بخطاب ثقافي وهوياتي جديد لا يستند إلى إرث تاريخي.
ومن منظور عربي، يمكن قراءة كتاب "السقوط الخامس" وما شابهه من دراسات وكتب باعتبارها وثائق اعتراف بأن إسرائيل التي تتسلح بالتفوق العسكري والتكنولوجي تخوض حرباً ضد ذاتها، وأنها أكثر إدراكاً من خصومها بأن وجودها نفسه مهدد في لحظة يشتد فيها الخلاف الداخلي، ويتآكل المشروع من أساسه، ويشتد فيها ساعد أعدائها، وأنها رغم مرور 77 عاماً على تأسيسها ما زالت تعيش لحظة 1948 والخوف من الفناء.