وقال هاليفي: "لا مشكلة لدينا في القول إننا أخطأنا يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وأنا أتحمّل المسؤولية. لقد كنت قائد الجيش في ذلك اليوم، ولديّ مسؤولياتي. وأرى في كل أمر أقوم به أن جزءاً مني أخطأ".
وبعد يوم من نشرها في وسائل الإعلام، التقى رئيس الأركان رؤساء المجالس والتجمعات والمستوطنات في جنوب قطاع غزة، وعرض عليهم النقاط الرئيسية للتحقيق الذي جرى في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي. وحضر اللقاء أيضاً قائد المنطقة الجنوبية، وقائد قيادة الجبهة الداخلية، وقائد فرقة غزة، وممثلون عن جيش الدفاع والاستخبارات العسكرية.
وفي يوم الاثنين الماضي اجتمع 600 ضابط من قادة كتائب جيش الاحتلال التي شاركت في القتال، إضافة إلى كبار جنرالاته ورئيس الأركان، في قاعدة بلماخيم الجوية في جلسة استمرت ساعات، وشهدت مداخلات وحديثاً لعدد من ضباط جيش الاحتلال، وتحديداً استخباراته العسكرية (أمان).
ووفقاً لصحيفة هآرتس العبرية، فمن المقرر أن يشهد يوم الأربعاء المقبل حفل تسلُّم وتسليم مهام رئاسة الأركان بين رئيسها الحالي هاليفي وخليفته إيال زامير. وأضافت الصحيفة أن الحفل سيقام في مقر جيش الاحتلال الإسرائيلي في تل أبيب، لا في مكتب رئيس الوزراء في القدس كما جرت العادة. وعلاوة على ذلك، لن يحضر الحفل سوى عدد قليل من الأشخاص، وسوف يكون مغلقاً أمام وسائل الإعلام.
كيف جرت عملية التحقيق؟
ووفقاً لوثيقة صادرة عن جيش الاحتلال الإسرائيلي، فقد بدأت عملية التحقيق الداخلي في شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2023، أي بعد شهر واحد من عملية طوفان الأقصى. وغطى الفترة من حرب العصف المأكول عام 2014 حتى السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023. وفي بداية التحقيق، عيَّن هاليفي فريقاً من الخبراء والضباط المتقاعدين بقيادة رئيس الأركان السابق شاؤول موفاز، وفقاً لمراسل الشؤون الدفاعية في صحيفة هآرتس، عاموس هرائيل.
ووفقاً لهرائيل فإن نتنياهو أجبر رئيس الأركان على إلغاء هذا القرار، قائلاً إنهم شخصيات سياسية. ونتيجة لذلك كان جزء كبير من التحقيقات يُجرى بواسطة ضباط احتياطيين من الفيلق أو القيادة نفسها التي كانوا يحققون معها. فضلاً عن ذلك، كانوا من رتب أدنى من رتب كبار الجنرالات الذين قادوا تلك الهيئات.
وبالعودة إلى وثيقة التحقيق الصادرة عن رئاسة الأركان الإسرائيلية، فقد أشارت إلى أن التحقيق تألف من أربعة تحقيقات رئيسية، و18 تحقيقاً فرعياً، و41 تحقيقاً حول معارك ميدانية. كما استند التحقيق إلى عشرات آلاف الوثائق، والتسجيلات، والمحادثات اللا سلكية، وشهادات المدنيين والجنود والقادة الذين شاركوا في القتال.
واستعرضت هذه التحقيقات المفاهيم الاستراتيجية والعملياتية والتكتيكية قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول، والفجوات الاستخباراتية، وأحداث ليلة 6-7 أكتوبر/تشرين الأول، وأحداث القتال من 7 أكتوبر/تشرين الأول حتى استعادة السيطرة على محيط غزة.
الفشل الاستخباري
احتل الفشل الاستخباري موقعاً مركزياً في التقرير الصادر عن جيش الاحتلال، خصوصاً المفاهيم الاستراتيجية التي حكمت العقلية الإسرائيلية تجاه قطاع غزة وحركة حماس. ووفقاً للتحقيق، فقد كانت “لدى القيادة السياسية والعسكرية في إسرائيل تصورات راسخة، استمرت لسنوات وشكّلت السياسات تجاه قطاع غزة وحركة حماس".
ومن أهم هذه التصورات "اعتبار غزة عدواً ثانوياً"، وتركيز المستوى الأمني الإسرائيلي على "إيران وحزب الله خلال العقود الأخيرة". وأضاف التحقيق أن الاحتلال اختار "سياسة إدارة الصراع"، التي تهدف إلى المحافظة على الوضع القائم وتحسينه بشكل محدود، ومن خلالها تحدَّد نهج العمليات العسكرية.
وامتداداً لهذه التصورات فإنه "لم يكُن لدى الجيش الإسرائيلي وأجهزة الأمن تصور صحيح لنيات حماس، واعتبروها تهديداً محدوداً يعتمد على رد الفعل، وأن أي هجوم واسع سيكون مسبوقاً بتحذيرات استخباراتية واضحة".
وشكّلت عملية سيف القدس 2021 نقطة فاصلة في سوء فهم الاحتلال لنيات حركة حماس وأساليب عملها، مما دفعه إلى "التركيز على تهديد الصواريخ فقط، والتقليل من شأن التهديد البري". وكان هذا ناتجاً عن "الاعتقاد المبالغ فيه بأن العائق الأمني تحت الأرض (الجدار الذكي) قد حيّد قدرة حماس على تنفيذ عمليات تسلل بري واسعة".
وأضاف التحقيق أن التصور السائد هو أن الاعتماد على المعلومات الاستخباراتية، والعائق الأمني، والدفاعات المتاحة، كافٍ لمنع أي توغل بري واسع. واعتمدت إسرائيل على "نهج استنزافي" يقوم على توجيه ضربات إلى حماس بين الحروب، وهذا النهج عزز لدى القيادة الإسرائيلية الوهم بأنها قادرة على تقويض قدرات حماس دون مواجهة مباشرة، وهو ما تبين لاحقاً أنه غير صحيح.
وتوصل التحقيق إلى أن إسرائيل "دخلت يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول وهي مُقيّدة بمفاهيم أمنية وعسكرية خاطئة، شكّلت استراتيجيتها تجاه غزة". وحول أداء الأجهزة الأمنية، حدّد التحقيق ثلاثة جوانب رئيسية للفشل الاستخباراتي: ثقافة استخباراتية غير نقدية، من خلال هيمنة مفرطة لفكرة "اليقين" في المعلومات. والاعتقاد بأن المخابرات تمتلك تفوقاً استخباراتياً كاملاً. ونظام استخباراتي يعزز التحيزات.
فلم يكن هناك تشكيك جاد في الفرضيات الراسخة حول نيات “العدو”، حتى عندما ظهرت أدلة جديدة، بالاضافة إلى مشكلات في جمع المعلومات ومعالجتها، "فقد اعتمدت إسرائيل بشكل كبير على مصادر استخباراتية محدودة، فيما أُهملت مصادر أخرى كان من الممكن أن توفر رؤية أوسع حول خطط حماس".
سقوط فرقة غزة
كشفت تحقيقات جيش الاحتلال الإسرائيلي عن تأخر القيادة العسكرية في إدراك حجم الاختراقات، مما أسفر عن قرارات غير متناسقة من قِبل القيادة، وفشل في توجيه قوات التعزيز نحو مناطق القتال الرئيسية. ولم تُفعَّل منظومة بديلة أو تُنشأ خطوط دفاع جديدة إلا بعد الساعة 09:00 صباحاً، أي بعد أكثر من ساعتين ونصف من بداية عملية طوفان الأقصى.
وأوضحت التحقيقات أن فرقة غزة لم تتمكن طوال يوم 7 أكتوبر، الذي شهد معارك عنيفة، من توفير صورة واضحة للقيادة الجنوبية أو لهيئة الأركان العامة، كما أخفقت في توجيه قوات التعزيز نحو المناطق القتالية الحرجة، الأمر الذي أدى إلى وصول عديد من القوات إلى مواقع غير ملائمة، وبالتالي ضياع فرصة تغيير مسار الحرب.
وفي تصريح لصحيفة معاريف العبرية، قال مصدر رفيع في هيئة الأركان العامة: "لم ندرك أن فرقة غزة قد انهارت وهُزمت إلا في وقت متأخر نسبياً، بل ليس من المؤكد أن الفرقة نفسها كانت على دراية في تلك اللحظة بأنها قد انهارت تماماً".
وتؤكد التحقيقات أن هذا القصور في التقدير والتوجيه انعكس بشكل مباشر على سير المعارك، إذ استمرت الفوضى الميدانية وأخطاء القيادة في عرقلة عمليات التعزيز، مما زاد صعوبة السيطرة على مجريات الحرب.
ويُظهِر التحقيق أن القيادة العسكرية استغرقت ثلاث ساعات كاملة قبل أن تدرك أن قائد اللواء الجنوبي في فرقة غزة، العقيد آساف حمامي، قد قُتل، مما يعني أن الفرقة كانت دون قيادة ميدانية. كما أن نائبه أصيب بجروح خطيرة، إلى جانب عدد من قادة الكتائب وسرايا القتال.
وأشارت صحيفة هآرتس العبرية إلى أن عدد الجنود الإسرائيليين الموجودين على الحدود مع غزة لم يتجاوز 770 جندياً مقاتلاً في صباح الهجوم (أو 680 وفقاً لرواية مختلفة)، بالإضافة إلى 14 دبابة مأهولة. كان عليهم مواجهة ما يقرب من 5600 مقاتل من المقاومة الفلسطينية قبل وصول تعزيزات كبيرة من جيش الاحتلال الإسرائيلي إلى الساحة، فيما كان الموقف على الحدود اللبنانية أكثر خطورة.
دروس وعبر
خلص التحقيق إلى مجموعة من الدروس والعبر الاستراتيجية لدولة الاحتلال، أولها: "عدم القدرة على إدارة صراع مع عدوّ هدفه تدميرك بالكامل"، في إشارة إلى قوى المقاومة الفلسطينية.
أما الدرس الثاني فيؤكد أن الأولوية يجب "أن تكون لإزالة التهديد، لا مجرد تحقيق فترات من الهدوء الأمني".
والدرس الثالث يتمثل في "منع التهديد التالي، بحيث تستند السياسة الأمنية إلى تحليل تطور التهديدات" التي تواجهها دولة الاحتلال، وعدم الثبات على شكل معيّن، مشيراً إلى تطور قدرات المقاومة من تنفيذ عمليات فردية إلى عمليات اقتحام جماعية.
أما الدرس الرابع الذي أشار إليه التحقيق فيكمن في "إعادة النظر في الجدار الأمني"، وعدم الاعتماد على "الجدار وحده". كما أوصى التحقيق بـ"توسيع الموارد العسكرية وتعزيز القدرات الدفاعية"، بالإضافة إلى ضرورة "وجود آلية لمراجعة المفاهيم الأمنية بانتظام".
وأخيراً، أوصى التحقيق بـ"تسريع بناء القدرات لخوض حرب متعددة الجبهات".