في 30 مايو/أيار، وجّه الجيش الإسرائيلي إنذارات بالإخلاء الفوري إلى سكان مناطق العطاطرة وجباليا البلد شمالاً، إضافة إلى أحياء الشجاعية والدرج والزيتون في مدينة غزة، ملوّحاً بتوسيع "نشاطه الهجومي" بدعوى القضاء على البنى التحتية لفصائل المقاومة.
وخلال الأيام الماضية، استهدف الاحتلال بشكل مكثف منازل وعمارات سكنية تقطنها عائلات مدنية، بعضها جرى تفريغه تحت وقع التهديدات. وترافق ذلك مع استمرار عمليات النسف والتفجير الممنهج للمباني في شمال القطاع وشرقي مدينتي غزة وخان يونس.
يأتي هذا التصعيد في سياق الإبادة الجماعية المتواصلة منذ أكثر من عشرين شهراً، التي يبدو أنها تدخل مرحلة جديدة، مع ما تشير إليه وسائل إعلام إسرائيلية من نية تمديد عملية "عربات جدعون" لأشهر مقبلة. وتقوم الخطة، بحسب المعطيات الميدانية، على إفراغ مناطق شمال غزة من سكانها وتوجيههم قسراً إلى الجنوب، مع إبقاء القوات الإسرائيلية في المناطق التي تحتلها.
وفي شهادات ميدانية أدلى بها فلسطينيون لوكالة الأناضول، عبّروا عن خشيتهم من أن القصف المكثف للمنازل يمثل مقدمة لتوسيع العملية البرية، وخاصة في مناطق شمال القطاع التي تتعرض لتدمير متعمّد ومتسارع.
بالتوازي مع الهجمات العسكرية، تزداد حدّة المجاعة التي يعانيها السكان نتيجة الحصار الكامل على المعابر ومنع دخول المساعدات الإنسانية، باستثناء كميات محدودة تُدخل إلى مراكز توزيع توصف بأنها "مصائد موت". إذ تشير تقارير حقوقية إلى ارتكاب الجيش الإسرائيلي مجازر دموية عند هذه النقاط، بإطلاق نار عشوائي على المدنيين المتجمعين للحصول على الغذاء.
وفي سياق متصل، بدأت إسرائيل والولايات المتحدة تنفيذ آلية جديدة لتوزيع المساعدات، عبر مؤسسة حديثة التأسيس تُدعى "مؤسسة غزة الإنسانية"، مسجلة في سويسرا. وتشير تقارير إعلامية عبرية إلى أن المبعوث الرئاسي الأمريكي للشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، هو من يقف وراء تأسيسها.
وفي اعتراف صريح، أقرت إذاعة الجيش الإسرائيلي بأن الخطة تهدف إلى تسريع تفريغ شمال القطاع من سكانه، كجزء من تصوّر أوسع يتماشى مع خطة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب، التي أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أنها أصبحت إحدى غايات الحرب الجارية.
تخوفات فلسطينية
كثّف جيش الاحتلال الإسرائيلي منذ الأحد قصفه للمنازل متعددة الطوابق في مناطق متفرقة من شمال قطاع غزة، إذ استهدفت الغارات بشكل خاص عمارات سكنية في مخيم جباليا، إضافة إلى منازل في شمال وشرق مدينة غزة. كما شملت الهجمات، يوم الاثنين، مناطق سكنية جديدة ضمن سياسة يبدو أنها ممنهجة لتدمير البنية الحضرية المتبقية.
ويؤكد شهود عيان لوكالة الأناضول أن جيش الاحتلال الإسرائيلي يتعمد استهداف المباني السكنية المرتفعة وسط المدن، وهو ما يثير مخاوف واسعة بين السكان من أن هذا القصف الكثيف يمثل تمهيداً لمرحلة جديدة من التوغل البري، تنفيذاً لتهديدات إسرائيل المتكررة بتوسيع عملية "عربات جدعون".
وفي هذا السياق، قال رئيس الأركان الإسرائيلي، إيال زامير، خلال جولة ميدانية جنوب القطاع الأحد، إن العملية العسكرية "ستتسع لتشمل مناطق إضافية شمال غزة وجنوبها".
ويحذّر المحلل السياسي أسامة المغير، في تصريح للأناضول، من أن القصف المكثف يهدف إلى "خلق مساحات واسعة من الدمار لتهيئة المشهد لاجتياح بري أوسع، إلى جانب ترهيب السكان المتبقين ودفعهم للنزوح القسري تحت النار".
وأضاف أن هذه الاستراتيجية تسعى لتحويل غزة إلى منطقة غير صالحة للعيش، في إطار مشروع أوسع لتصفية الوجود الفلسطيني في القطاع، مشيراً إلى أن تدمير الأحياء السكنية يشكل امتداداً لسياسات "إبادة المدن" التي اتُّبعت سابقاً في رفح وشمال القطاع.
وبحسب المغير، يستند جيش الاحتلال الإسرائيلي في عملياته إلى تصوّر عسكري يعتبر أن حسم المعركة يتطلب "هدم الحيز الحضري بالكامل"، مشيراً إلى أن النموذج المعتمد هو ما جرى في رفح وشمال القطاع.
وتعزز هذه التحليلات ما كشفته تسريبات من لجنة الشؤون الخارجية والدفاع في الكنيست في 13 مايو/أيار، إذ أقر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في جلسة مغلقة بأن "تدمير منازل الفلسطينيين في غزة يجري عمداً لمنع عودتهم"، مضيفاً: "نواصل تدمير المنازل يومياً، وفي النهاية لن يكون لديهم مكان يعودون إليه... النتيجة الوحيدة ستكون الهجرة، والتحدي هو إيجاد دول تستقبلهم".
وتشير تقارير عبرية صدرت في 22 مايو/أيار إلى أن الجيش الإسرائيلي يخطط للسيطرة على نحو 75% من قطاع غزة خلال الشهرين المقبلين، في خطوة قد تكرّس واقعاً ديموغرافياً جديداً وتدفع باتجاه تغيير جذري في خريطة القطاع وسكانه.
ويعاني قطاع غزة أزمة إنسانية وإغاثية كارثية منذ أن أغلقت إسرائيل المعابر في 2 مارس/آذار الماضي، مانعة دخول الغذاء والدواء والمساعدات والوقود، بينما يصعّد جيشها حدة الإبادة الجماعية التي يرتكبها بحق فلسطينيي القطاع.
وبدعم أمريكي مطلق، ترتكب إسرائيل منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 إبادة جماعية في غزة، خلّفت أكثر من 178 ألف فلسطيني بين قتيل وجريح، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 11 ألف مفقود، إلى جانب مئات آلاف النازحين.