رجال ونساء وأطفال خرجوا من خيامهم بين الركام، مدفوعين بإعلانات عن توزيع مساعدات غذائية في مناطق وُصفت بأنها "آمنة" وتحت إشراف جيش الاحتلال.
إلا أن الواقع كان مختلفاً تماماً، فالمشهد سرعان ما تحوّل إلى ساحة رعب، إذ هرع العشرات مذعورين تحت وابل من النيران، وسقط العديد منهم بين شهيد وجريح، نُقلوا على عربات بدائية تجرّها الحيوانات بسبب تعذّر وصول سيارات الإسعاف.
شهادات جمعتها وكالة الأناضول من ناجين وذوي ضحايا تكشف حجم المأساة، الفلسطينيون المحاصرون وجدوا أنفسهم بين ناري الجوع والاستهداف العسكري.
وبعيداً عن إشراف الأمم المتحدة أو الهيئات الإغاثية الدولية، بدأ الاحتلال الإسرائيلي في 27 مايو/أيار الماضي تنفيذ خطة توزيع "مساعدات" عبر كيان يُعرف باسم "مؤسسة غزة الإنسانية"، المدعومة من تل أبيب وواشنطن والمرفوضة من الأمم المتحدة. وحدّد الجيش الإسرائيلي أربع نقاط توزيع عبر هذه المؤسسة، ثلاث منها جنوب القطاع، وواحدة في محور "نتساريم" وسط غزة.
وفق إفادات محلية، يُسمح فقط لهذه الجهة بتوزيع مساعدات محدودة في ما تُعرف بـ"المناطق العازلة"، إذ تستهدف الخطة تفريغ شمال القطاع من السكان، بينما تواكب عمليات التوزيع باستهداف مباشر للمدنيين عبر إطلاق النار.
ومنذ بدء العمل بهذه الآلية وحتى صباح الثلاثاء، وثّقت وكالة الأناضول استشهاد 99 فلسطينياً وإصابة المئات في مجازر متكررة وقعت عند نقاط التوزيع، وخصوصاً في محيط مدينة رفح.
ويؤكد شهود عيان أن جنود الاحتلال الإسرائيلي يطلقون النار عشوائياً على الجموع المنتظرة للحصول على طرود غذائية، في مشهد يكشف بوضوح الطابع الممنهج لهذا الاستهداف.
"ركضنا إلى الجبل لنأكل، فخرجت أحشاء أخي"
يروي يزن مصلح، شقيق الطفل الجريح يزيد (13 عاماً)، تفاصيل ما حدث، حين خرجت عائلته بحثاً عن طعام يسد الرمق، فوجدت نفسها في مرمى النيران. يقول: "كنا جالسين في خيمتنا، وعندما سمعنا بوصول المساعدات، توجهنا بسرعة إلى مركز التوزيع. والدي أجلسنا في مكان قيل إنه آمن، لكنه لم يكن كذلك".
ويضيف بصوت مشحون بالألم: "فُتح إطلاق النار بشكل عشوائي، وكان أخي يلوّح للطائرة بيديه، كي لا تطلق عليه، لكن رصاصة مزقت بطنه وخرجت أحشاؤه".
ويستذكر تلك اللحظة قائلاً: "صرخت طلباً للمساعدة، ولم نجد وسيلة لإسعافه سوى عربة يجرّها حيوان. لم نعد بأي طعام، بل عدنا بإصابة خطيرة".
من جهته، يصف والد الطفل، إيهاب مصلح، المشهد قائلاً: "من شدة الجوع، ذهبت إلى نقطة التوزيع في خان يونس، واعتقدت أنني وفّرت مكاناً لأولادي، لكن الرصاص كان يتساقط من كل اتجاه. لم نحصل على شيء، فقط إصابة مروعة لابني. نحن لا نطلب أكثر من وقف هذه الحرب الظالمة".
تعليمات مضللة قادتهم للموت
يؤكد خالد اللحام، أحد الناجين من مجزرة المساعدات، أنه أُصيب في أثناء توجهه إلى نقطة توزيع صنّفها الجيش الإسرائيلي على أنها "منطقة إنسانية آمنة".
ويقول في حديثه لوكالة الأناضول: "ذهبنا تلبية لتعليمات الجيش الإسرائيلي، قالوا إنها منطقة آمنة، لكننا فوجئنا بوابل من الرصاص يسقط علينا. أُصبت أنا والعشرات، وسقط شهداء كنا فقط نبحث عن لقمة تسد جوعنا، فلم نأكل منذ أسبوع".
ويضيف: "ما إن وصلنا حتى حوصرنا من كل الجهات، أُطلقت النار من الدبابات والطائرات المسيّرة والمروحيات"، متابعاً بصوت واهن: "ذهبت لأجل الطعام لأطفالي، وعدت برصاصة مستقرة في ظهري".
"ذهب ليُطعم والده فعاد مصاباً"
وفي حي مدمر بين رفح وخان يونس، استيقظ محمد البسيوني مع بزوغ الفجر يحمل هدفاً واحداً: تأمين الطعام لوالده المريض. وبرغم توسلات والدته بعدم الخروج، أصر الشاب العشريني على المحاولة، مدفوعاً بعجز لا يرحم.
يقول البسيوني لوكالة الأناضول: "أمي حاولت منعي، لكن والدي مريض، وكنا بحاجة ماسة للطعام. خرجت الساعة السادسة صباحاً، وما إن وصلت إلى منطقة التوزيع حتى بدأ إطلاق النار".
لم يمضِ وقت طويل حتى أصيب البسيوني برصاصة في ظهره، ونُقل على متن عربة صغيرة "توكتوك" إلى أقرب نقطة طبية، إذ خضع لعملية جراحية أنقذت حياته. يروي بتنهيدة ثقيلة: "أنا الآن على قيد الحياة، لكن غيري عاد جثة. كنا نعلم أن الخطر كبير، لكن لم يكن أمامنا خيار آخر. الجوع قاتل... نريد فقط أن تنتهي هذه الحرب، أن يُرفع الحصار، وتنقشع هذه الغمة".
وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا" أكدت الاثنين أن آلية توزيع المساعدات الأمريكية المدعومة من إسرائيل "لا تلبي الاحتياجات الإنسانية العاجلة"، ودعت إلى تمكينها من إيصال المساعدات بأمان.
كما نددت منسقة شؤون الطوارئ في منظمة "أطباء بلا حدود" كلير مانيرا بقتل عشرات الفلسطينيين في أثناء انتظارهم للمساعدات، مؤكدة أن "النظام الجديد لتوزيع المساعدات يفتقر للإنسانية والفاعلية".
وقال المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، إن جيش الاحتلال الإسرائيلي يرتكب جريمة مزدوجة تجسّد استخدام "المعونة سلاحاً للإذلال والإخضاع والتدمير والقتل".
وأكد المرصد أن الاحتلال حوّل نقاط توزيع المساعدات إلى "ساحة جديدة لقتل وسحق المدنيين المُجوَّعين".
ومنذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 ترتكب إسرائيل إبادة جماعية بغزة تشمل قتلاً وتجويعاً وتدميراً وتهجيراً، متجاهلة نداءات دولية وأوامر لمحكمة العدل الدولية بوقفها.