غير أن هذا الخيار العسكري، رغم كثافة النقاش حوله في الأوساط السياسية والأمنية الإسرائيلية، ظل يصطدم بعقبة رئيسية: المسار الجوي نحو إيران.
فالمسافة التي تفصل بين القواعد الجوية الإسرائيلية والمواقع النووية الإيرانية والتي تتجاوز في بعض الحالات 1500 كيلومتر تتطلب عبور أجواء دول لا تقيم علاقات علنية مع إسرائيل.
ومع غياب تفاهمات رسمية مع هذه الدول، تحوّل هذا المسار إلى تحدٍّ عملياتي كبير، خاصة في ظل الحاجة إلى التزود بالوقود جواً، والتنسيق الاستخباراتي والإلكتروني المعقّد لضمان المرور الآمن للطائرات، مروراً بمناطق تخضع لرصد راداري أو تنشط فيها مجموعات مسلحة حليفة لطهران.
هذا التعقيد الجغرافي-السياسي دفع إسرائيل إلى مراجعة خياراتها مراراً، بما في ذلك تقليص حجم الضربة أو تأجيلها، وفي بعض الأحيان اللجوء إلى بدائل غير تقليدية، مثل الهجمات السيبرانية والعمليات السرية، التي كان أبرزها اختراق منشآت نطنز بفيروس "ستوكسنت" عام 2010، واغتيال علماء بارزين، من أبرزهم محسن فخري زادة، الذي يُعرف بلقب "أبو البرنامج النووي الإيراني".
ورغم التقدم التقني والعملياتي في سلاح الجو الإسرائيلي، ظلّ المسار الجوي يمثل الحلقة الأضعف في أي سيناريو لضرب إيران، ما دفع المخططين لدراسة خيارات مختلفة، من بينها المسار الشمالي عبر الأجواء السورية والعراقية، الذي بات أكثر واقعية بعد تراجع القدرات الدفاعية الجوية في كلا البلدين.
وفي المقابل، نُوقشت مقترحات أخرى عبر وسط المنطقة أو من شمالها الشرقي، لكنها بقيت حبيسة الورق نتيجة العقبات السياسية والاستراتيجية.
ملامح بناء الممر الجوي نحو طهران
في مارس 2003، غزت الولايات المتحدة وحلفاؤها العراق، ما أسفر عن إسقاط نظام صدام حسين وتدمير واسع للبنية العسكرية العراقية.
ورغم تقادم منظومات الدفاع الجوي والرادارات العراقية، فإنها كانت تمثل عائقاً جوياً يحول دون أي مسار مباشر بين "إسرائيل" وإيران. لكن مع انهيار هذه المنظومات، نشأ فراغ استراتيجي في المجال الجوي العراقي، استغلته إسرائيل لاحقاً بفعالية، في تشكّل ما بات يُعرف بالممر الجوي الإسرائيلي إلى إيران.
وفي السنوات التي تلت سقوط النظام العراقي، دخلت إسرائيل مرحلة جديدة من التصعيد والتمدد الجوي الإقليمي، عبر تنفيذ سلسلة من العمليات العسكرية عُرفت لاحقاً باسم "المعارك بين الحروب"، مع تطور الأحداث الداخلية في سوريا وتمركز قوات إيرانية وقوات من "حزب الله" قرب حدود الجولان السوري المحتل، كثّف سلاح الجو الإسرائيلي عملياته داخل الأراضي السورية، مستهدفاً مواقع انتشار تلك القوات، إضافة إلى بنى تحتية عسكرية سورية مرتبطة بإنتاج الصواريخ والأسلحة الدقيقة.
وخلال هذه العمليات، عمدت إسرائيل إلى استهداف متكرر لمنظومات الدفاع الجوي السورية، بهدف تأمين حرية حركة مقاتلاتها ومنع اعتراضها أثناء تنفيذ الضربات.
وتميزت تلك العمليات بطابع مركّب؛ إذ كانت تبدأ غالباً بإخماد دفاعات العدو، عبر ضرب رادارات أو منصات إطلاق، قبل الانتقال إلى الهدف الأساسي، سواء كان منشأة عسكرية إيرانية أو موقعاً سورياً حساساً.
على مدار سنوات من حملة "المعارك بين الحروب"، تكبّد الدفاع الجوي السوري خسائر فادحة، شملت تدمير منظومات رئيسية، واستنزافاً لمخزون الصواريخ الاعتراضية، لا سيما صواريخ سام-5 (S-200) وسام-6، وهما العمود الفقري للدفاع الجوي السوري، إلى جانب بطاريات "S-300" التي ظلت تحت الإشراف الروسي ولم تُستخدم بفعالية ضد الطائرات الإسرائيلية.
ورغم قدم هذه المنظومات، فقد أظهرت قدرة على المواجهة، ففي فبراير 2018 تمكن الدفاع الجوي السوري من إسقاط مقاتلة إسرائيلية من طراز F-16 بواسطة صاروخ سام-5، وذلك بعد كمين مدروس بُني على تحليل نمط تحليق الطائرات الإسرائيلية واعتيادها المرور من دون تعرض.
شكّل هذا الحادث دليلاً على أن بعض منظومات الدفاع الجوي القديمة لا تزال قادرة على إلحاق ضرر نوعي بالخصم في ظروف مواتية.
غير أن المشهد تغيّر كلياً مع سقوط النظام السوري في ديسمبر 2024، حيث استغل سلاح الجو الإسرائيلي ذلك لتنفيذ أعنف هجماته على ما تبقى من بنية الدفاع الجوي السوري.
وأدت، وفق المتحدث باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي، إلى "إلحاق أضرار جسيمة بمنظومة الدفاع الجوي السوري وتدمير أكثر من 90% من صواريخ أرض-جو الاستراتيجية التي جرى تحديد موقعها".
وبذلك اكتملت أمام إسرائيل معالم "الممر الجوي" الآمن نحو إيران، مروراً بالأجواء السورية المفتوحة، فالعراقية، وصولاً إلى العمق الإيراني.
عمليات التزود الجوي بالوقود.. نقاط الالتقاء ومسارات العمل
رغم أن المسار الجوي نحو طهران بات مفتوحاً من الناحية العملياتية، إلا أن ثمة عوائق فنية ولوجستية تجعل تنفيذ ضربة جوية مباشرة مهمة معقدة وشديدة الحساسية.
أبرز هذه التحديات يتمثل في المسافة الطويلة التي يجب أن تقطعها المقاتلات الإسرائيلية للوصول إلى العمق الإيراني، وهي مسافة لا يمكن اجتيازها دون إعادة التزود بالوقود في الجو.
يمتلك سلاح الجو الإسرائيلي ثلاث فئات رئيسية من المقاتلات: F-16 بمختلف طرازاتها، F-15 بنسختيها الاعتراضية والاستراتيجية بعيدة المدى، والمقاتلة الشبحية الأحدث F-35.
لكن أياً من هذه الطائرات لا يمتلك مدىً كافياً يمكّنه من تنفيذ المهمة كاملة ذهاباً وإياباً، دون التزود بالوقود، خصوصاً إذا كانت المهمة تتضمن مناورات في الأجواء الإيرانية أو اشتباكاً مع أهداف متعددة.
ولتغطية هذا النقص، يعتمد سلاح الجو على أسطول من طائرات التزود بالوقود، أبرزها بوينغ 707 المخصصة لتزويد المقاتلات، وطائرات C-130 هيركوليز بطرازاتها المختلفة المخصصة لتزويد المروحيات.
ومع ذلك، لا بد من الإشارة إلى أن معظم هذه الطائرات تخدم في الأسطول الإسرائيلي منذ عقود، وتملك سجلاً طويلاً من المشاركة في عمليات كبرى، منها قصف المفاعلات النووية في العراق وسوريا، وعمليات عسكرية في اليمن ولبنان وسوريا وغزة.
هذا التاريخ الطويل في الخدمة يُترجم إلى استهلاك كبير في ساعات الطيران، ما يزيد من احتمالات الأعطال ويقلل من موثوقية الأسطول في العمليات البعيدة المدى.
في هذا السياق، يقول موقع "واي نت" العبري أن الاستعدادات للضربة الإيرانية سبقتها بأشهر من خلال استبدال العديد من القطع المتهالكة، وطلبها من الشركات الدفاعية المختلفة.
حتى أن بعض القطع لم تعد تصنّع من قبل شركات لوكهيد مارتن وبوينغ وغيرها، لذا طلبت "وزارة الدفاع" الإسرائيلية طلبات خاصة من شركات أخرى أوروبية، لكنها امتنعت عن تقديم المساعدة باستثناء ألمانيا والولايات المتحدة وذلك بسبب تزايد الاحتجاجات ضد الإبادة المستمرة في غزة.
في الواقع، شكّلت قدرة إسرائيل على تنفيذ عمليات التزود بالوقود جواً باتجاه طهران إحدى أبرز الحيل التي استخدمتها في معركتها النفسية ضد إيران.
فلطالما أشاعت تل أبيب أن طائرات التزود بالوقود التي تملكها، من طراز بوينغ 707 المعروفة باسم "البجعة"، باتت غير صالحة للعمل بفعل تقادمها، إذ يبلغ متوسط عمر الطائرات السبع الموجودة في الأسطول الإسرائيلي ما بين 40 و50 عاماً.
وانطلاقاً من هذه المعطيات، خلص كثير من المحللين، بمن فيهم الإيرانيون، إلى أن شنّ هجوم جوي واسع النطاق ضد إيران باستخدام هذه الطائرات المتقادمة أمر غير مرجّح، خاصة في ظل انتظار إسرائيل استلام 8 طائرات تزويد حديثة من طراز "بيغاسوس" KC-46 الأمريكية، المقرّر بدء تسليمها مع نهاية العام الجاري.
لكن المفاجأة كانت أن إسرائيل لم تنتظر. فقد نفّذت العملية الجوية دون الاعتماد على طائرات "بيغاسوس"، معتمدة على أسطولها القديم من طائرات "البجعة".
تعتمد تقنية التزود بالوقود المستخدمة في هذه الطائرات على نظام "الحقن"، حيث يخرج ذراع تلسكوبي من مؤخرة طائرة التزود بالوقود (التانكر)، يتم توجيهه من قِبل مشغّلي الطائرة إلى فتحة استقبال الوقود في المقاتلة، الواقعة على سطحها العلوي. وتعدّ هذه العملية دقيقة وحساسة للغاية، ما يستدعي توفير حماية ومرافقة جوية خاصة.
ولتأمين العملية، شاركت طائرات الإنذار المبكر الإسرائيلية من طراز "جولف ستريم" (النسخة المسماة "نحشون إيتام")، والمجهزة برادارات جانبية عالية القدرة، تقوم بكشف المجال الجوي المحيط بمنطقة التزود بالوقود لمسافات قد تصل إلى مئات الكيلومترات.
كما رافقت العملية طائرات الحرب الإلكترونية "نحشون شافيت"، وهي أيضاً من طراز "جولف ستريم"، تؤدي دور التشويش على الأنظمة الإلكترونية المعادية، بما في ذلك تعطيل أنظمة الملاحة والتموضع العالمي (GPS)، في خطوة تهدف إلى تأمين المجال الجوي وحماية مقاتلات سلاح الجو أثناء عملية التزود بالوقود الحرجة.
أعلن جيش الاحتلال الإسرائيلي أنه نفّذ نحو 600 عملية تزوّد بالوقود جواً خلال أيام الحرب الـ12 مع إيران، في مؤشر على كثافة الطلعات الجوية وطول المسافات التي قطعتها المقاتلات المشاركة.
وتم توثيق إحدى هذه العمليات فوق محافظة دير الزور السورية، التي تُعد موقعاً مثالياً لإعادة تزويد الطائرات بالوقود، نظراً لقربها من مسارات الطيران المؤدية إلى العمق الإيراني.
وفي أحد المقاطع المصوّرة، ظهرت مقاتلة من طراز F-16 أثناء تزوّدها بالوقود في الجو من طائرة بوينغ 707، وهي طائرة قديمة مخصصة لهذا الغرض لا تزال تُستخدم في سلاح الجو الإسرائيلي، ما يؤكد مشاركة الطرازات المتقادمة إلى جانب الأحدث في العمليات الجوية.
كما عُثر لاحقاً على عدد من خزانات الوقود الإضافية التي تخلّت عنها المقاتلات أثناء عودتها، في مناطق مختلفة داخل الأراضي السورية، وهو ما يشير إلى اتساع رقعة العمليات الجوية وتعدّد خطوط الإمداد والانسحاب.
ويُرجّح مراقبون وجود أكثر من نقطة التقاء للتزود بالوقود في مناطق مختلفة، بما يتلاءم مع اختلاف مدى الطرازات المشاركة في الهجوم، ويرى البعض أن أجواء إقليم شمال العراق قد استُخدمت لتنفيذ بعض هذه العمليات.
في الوقت نفسه، أُثيرت تكهّنات بشأن استخدام إسرائيل للمطارات والأجواء في إدارة جنوب قبرص اليونانية كنقطة انطلاق لبعض المقاتلات، في إطار رسم مسارات جديدة باتجاه إيران، إلا أنه لا توجد حتى الآن أدلة مؤكدة تدعم هذا الطرح.
وقد تداول مدوّنون ومحللون إيرانيون مؤشرات تفيد بأن الغارات نُفذت من خارج الأجواء الإيرانية، باستخدام قنابل موجهة وصواريخ "ستاند أوف" بعيدة المدى، يمكن إطلاقها من مسافة مئات الكيلومترات عن الهدف.
هذا النوع من الذخائر يتيح للمقاتلات الإسرائيلية مهاجمة أهداف داخل العمق الإيراني دون الحاجة لاختراق مجال الدفاع الجوي بشكل مباشر، ويُعتقد أن العثور على خزانات وقود إضافية في مناطق محيطة بإيران يعزّز فرضية استخدام المدى الأقصى للطائرات في تنفيذ الضربات، مع اعتماد تكتيكات تهدف إلى تقليل البصمة الرادارية وتجنّب الاشتباك المباشر.
حقيقة استخدام مواقع إطلاق قريبة من ساحة العمليات في إيران
خلال الحرب على إيران، نشر جيش الاحتلال الإسرائيلي مقاطع مصوّرة تُظهر استهداف منصات الصواريخ الباليستية إلى جانب عدد من الضربات الدقيقة الأخرى.
وبدا واضحاً في تلك المقاطع الاعتماد المكثف على الطائرات المسيّرة، أبرزها "هيرمس 900" المعروفة في سلاح الجو الإسرائيلي باسم "كوخاف"، إلى جانب طائرات "هيرون" القادرة على التحليق المتواصل لمدة تصل إلى 30 ساعة.
فضلاً عن استخدام طائرات مسيّرة جديدة تظهر للمرة الأولى، مثل "أوربيتر" الانتحارية، التي جرى تعديلها خصيصاً لتتناسب مع طبيعة هذه العمليات.
هذا الاستخدام المكثف للطائرات المسيّرة يفتح باب التساؤلات حول المواقع التي انطلقت منها هذه الطائرات، خاصة أن أغلبها يحتاج إلى قواعد قريبة من ساحة العمليات لضمان سرعة الاستجابة.
فالمسيّرات من طراز "هيرون" و"هيرمس" تنتمي إلى فئة "MALE"، أي الطائرات ذات الارتفاع المتوسط وزمن التحليق الطويل، لكنها بطيئة نسبياً، وقد تستغرق ما بين 10 إلى 12 ساعة للوصول إلى الأجواء الإيرانية إذا أقلعت من داخل الأراضي الإسرائيلية، ما يقلل من فاعليتها من حيث الاستطلاع السريع وتحديد الأهداف في الوقت المناسب.
أما بالنسبة لطائرات "أوربيتر"، التي عُثر على بعضها في حالة شبه سليمة، فمن المرجّح أنها أُطلقت من مواقع قريبة جداً من العمق الإيراني، نظراً لمدى تحليقها المحدود الذي لا يتجاوز 150 كيلومتراً، وهو ما يعزز فرضية وجود بنية لوجستية متقدمة.
كما وثّق أحد رعاة الأغنام عدة طائرات نقل إسرائيلية من طراز سي-130 سوبر هيركوليز في أجواء صحراء السويداء جنوبي سوريا، مما يضع احتمالا لنقل معدات لوجستية للقواعد المتقدمة بالقرب من مسرح العمليات في إيران.
أيضاً إمكانية تزويد وقود من خلال هذه الطائرات للمروحيات الإسرائيلية التي قد تنقل قوات خاصة إلى العمق الإيراني، وهذا ما صرح به الإسرائيليون عن تنفيذ عمليات خاصة بواسطة كوماندوز إسرائيلي في عمق إيران.
مستقبل الممر الجوي
في المستقبل القريب، لا يُتوقع أن تتمكن كل من سوريا والعراق من إعادة بناء جيوشها أو استعادة منظوماتها الخاصة للدفاع الجوي، ما يعني أن أجواء هاتين الدولتين ستظل مكشوفة عملياً أمام سلاح الجو الإسرائيلي، طالما لم تطرأ تحولات جوهرية في موازين القوى الإقليمية.
هذا الواقع يعيد إلى الواجهة المقولة الشهيرة لقائد سلاح الجو الإسرائيلي السابق عيزر وايزمان، مهندس تطوير الذراع الجوية، الذي قال: “بلدنا خالٍ من أي عمق استراتيجي، وهذا أمر يعرفه الجميع، وللتعويض عن ضيق الجغرافيا، جعلنا من السماء عمقنا الاستراتيجي”.
وشكّل الوصول الإسرائيلي العلني إلى العمق الإيراني إنذاراً استراتيجياً لدول الشرق الأوسط، كاشفاً عن مدى القدرة الإسرائيلية على تجاوز الدفاعات الجوية، سواء عبر الطائرات المسيّرة الانتحارية والصغيرة، أو عبر المقاتلات المتقدمة، بما في ذلك الشبحية منها.
ففي ظل هذه الشهية المفتوحة للتوسع الجوي الإسرائيلي، حيث تحوّلت الغارات إلى رسائل سياسية أكثر منها عمليات تكتيكية، تبدو سماء المنطقة وكأنها في حالة تآكل سيادي مستمر.
وهنا يبرز السؤال الجوهري: هل تستطيع دول المنطقة أن تعيد ترسيم مجالها الجوي وتفرض سيادتها عليه؟ أم أن تفوّق الذراع الجوية الإسرائيلية بات مسألة وقت قبل أن يتحوّل إلى واقع مفروض؟