في أعقاب انتخابات 2022، وُلدت في إسرائيل أكثر الحكومات يمينية وتطرّفاً في تاريخها، بقيادة بنيامين نتنياهو، الذي فضّل التحالف مع قوى دينية وفاشية متشددة، أبرزها حزبا "القوة اليهودية" و"الصهيونية الدينية". كما ضم الائتلاف شركاء من التيار الحريدي، المعروف بانعزاله المجتمعي ورفضه أداء الخدمة العسكرية، رغم تمتّعه بامتيازات اقتصادية وسياسية واسعة. هذا التحالف، القائم على تنازلات آيديولوجية عميقة، يبدو هشّاً بطبيعته، لكنه يمسك بزمام الحكم في ظل ظرف استثنائي.
منذ اندلاع الحرب على غزة، شكّل هذا الائتلاف حاجزاً أمام أي محاولة للتوصل إلى وقف إطلاق نار أو اتفاق لتبادل الأسرى. أحزاب اليمين الفاشي هددت نتنياهو مراراً بالانسحاب من الحكومة إذا ما تراجع عن مواصلة الحرب، ما جعله يستخدمها ذريعة للتهرّب من الضغوط الدولية والأمريكية المتزايدة. وحتى اليوم، ورغم محادثات غير مباشرة مع حركة حماس، لا يزال هذا التهديد السياسي يقيّد هامش المناورة لدى نتنياهو ويعقّد فرص إنهاء الحرب.
لكن الأزمة لا تقف عند حدود الحكومة، إذ خلقت الحرب –بطول أمدها وفشل الجيش الإسرائيلي في حسمها– شرخاً داخلياً عميقاً في المجتمع الإسرائيلي. هذا الشرخ يتجلى بشكل متزايد في صراع بين التيار العلماني والمجتمع الحريدي، ويهدّد بتحوّل الانقسام السياسي إلى انقسام مجتمعي حاد، يُنذر بتداعيات بعيدة المدى على شكل الدولة الإسرائيلية ونسيجها الداخلي.
يتلخص هذا النقاش المتصاعد داخل إسرائيل في معادلة شديدة الحساسية: حرب غزة، التي دخلت عامها الثاني، كبّدت الجيش الإسرائيلي خسائر بشرية غير مسبوقة، آلاف القتلى وأكثر من عشرين ألف جريح، بين إصابات جسدية ونفسية، لا يمكنهم العودة إلى ساحة القتال. هذه التكلفة البشرية أثقلت كاهل الجيش النظامي واحتياطه، وأجبرته على مواصلة القتال لأشهر طويلة، ما انعكس سلباً على حياة الجنود وعائلاتهم، وفاقم التوترات داخل المجتمع الإسرائيلي.
في هذا السياق، تصاعدت دعوات سياسية وشعبية لإعادة النظر في "الاتفاق التاريخي" الذي يُعفي الحريديم من الخدمة العسكرية منذ عام 1948، والمطالبة بإشراكهم في الجهد الحربي أسوة ببقية الإسرائيليين. وتزايدت الضغوط داخل الائتلاف الحاكم نفسه، وفي صفوف المعارضة، لإلغاء الامتيازات التي يتمتع بها الحريديم، حتى لو اقتضى الأمر سجن رافضي الخدمة.
في المقابل، عبّرت أحزاب الحريديم، ومعها المرجعيات الدينية، عن رفض قاطع لأي مساس بنمط حياتهم القائم على التفرّغ للدين، ورفضوا التجنيد تحت أي ظرف. ومع تعثّر جهود نتنياهو في التوصّل إلى حل وسط يؤجل الأزمة إلى ما بعد الحرب، اتجه رئيس أركان الجيش إلى اتخاذ خطوة غير مسبوقة، بإرسال آلاف أوامر التجنيد للحريديم، ما فجّر موجة احتجاجات واسعة في صفوفهم.
وقد بلغ النزاع ذروته عندما رُفعت القضية إلى المحكمة العليا، للمطالبة بفتوى قانونية تُلزم الحكومة بتجنيد الحريديم، ما يُنذر بانفجار أزمة سياسية واجتماعية مركبة، قد تعصف بتماسك الائتلاف الحاكم، وتعيد خلط الأوراق في المشهد الإسرائيلي كله.
أمام تصاعد الضغوط الداخلية وفشل بنيامين نتنياهو في تمرير وعوده المتكررة لأحزاب الحريديم بشأن إعفائهم من الخدمة العسكرية، قرّر الحريديم اتخاذ خطوة تهديدية جدية: تخلّوا عن مناصبهم الوزارية، وامتنعوا عن دعم مشاريع القوانين التي يطرحها الائتلاف الحاكم. ومع ذلك، أبقوا على "شعرة معاوية" مع نتنياهو، ومنحوه مهلة حتى نهاية أكتوبر/تشرين الأول، بعد عودة الكنيست من عطلته الصيفية، لتقديم مشروع قانون يكرّس رسمياً إعفاءهم من التجنيد.
بهذا، أصبحت الحكومة الإسرائيلية معلّقة حرفياً بإرادة الحريديم، وبات مصيرها السياسي مرهوناً بمسألة الإعفاء العسكري. لكن يبقى السؤال المطروح: هل يستطيع نتنياهو تمرير قانون كهذا داخل ائتلافه المنقسم؟ الإجابة ليست واضحة حتى الآن.
في هذا السياق المأزوم، ومع تزايد الضغوط الدولية، وخاصة من الولايات المتحدة، للمطالبة بوقف الحرب على غزة، فضلاً عن الغضب الشعبي المتصاعد داخل إسرائيل نتيجة ارتفاع أعداد القتلى والجرحى، وضغوط عائلات الأسرى، تتقلص خيارات نتنياهو يوماً بعد يوم. باتت مساحة المناورة أمامه محدودة، ولا سيما مع الانقسامات العميقة داخل حكومته، بين اليمين الفاشي من جهة، والحريديم من جهة أخرى.
السيناريوهات المطروحة أمام نتنياهو كلها شائكة: إما أن يُسقطه الحريديم أو اليمين المتطرف، أو أن يبادر هو إلى تفكيك الحكومة والدعوة لانتخابات مبكرة، على أمل تسويق نفسه للناخب الإسرائيلي كمن "استعاد الأسرى"، وحقق "انتصارات" في غزة وإيران ولبنان وسوريا، وربما اليمن أيضاً. أما خيار التوصّل إلى اتفاق مرحلي مع حماس أو وقف الحرب بشكل دائم، فيبدو، حتى اللحظة، الخيار الأضعف والأبعد عن حسابات نتنياهو السياسية.
جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كتّابها، ولا تعبِّر بالضرورة عن TRT عربي.