توفي يوم الجمعة دانيال إلسبرغ، المحلل العسكري الذي أثّر بعمق في السياسة الأمريكية والتاريخ العسكري والصحافة، بتسريبه للصحافة أوراق البنتاغون، وهي وثائق سرّية عن حرب فيتنام. وسبق لإلسبرغ في مارس/آذار الماضي أن كشف عن "تشخيص إصابته بسرطان البنكرياس غير القابل للجراحة".
التصرف الشجاع الذي قام به إلسبرغ عبر كشف الحقائق والأكاذيب المروعة التي أحاطت بواحد من أكثر الصراعات إثارةً للجدل في التاريخ الأمريكي، لم يُدخله السجلات التاريخية من أوسع أبوابها فحسب، بل غيّرت أفعاله أيضاً مسار الحرب وتركت بصمة لا تُمحى على نزاهة الحكومة الأمريكية.
دفعت وثائق البنتاغون المسربة في عام 1971، والتي ألقت الضوء على الأسرار حول كيف وجدت أمريكا طريقها إلى فيتنام، وكيف خدع قادة الولايات المتحدة الأمة حول سبب وفاة أبنائها، إلى إطلاق معركة قانونية شديدة الخطورة حول حرية الصحافة، وتسببت أيضاً في دفع فريق الرئيس ريتشارد نيكسون إلى الطريق المظلم نحو فضيحة "ووترغيت"، وفقاً لما نقلته صحيفة "بوليتيكو".
حياته المبكرة
وُلد دانيال إلسبرغ في 7 أبريل 1931 في شيكاغو، إلينوي. وهو ابن هاري وأديل إلسبرغ. قُتلت والدته وشقيقته غلوريا عندما نام والده في أثناء قيادة سيارتهما في يوليو/تموز 1946.
قال بعد سنوات، معلقاً على حادثة الوفاة: "ربما ترك هذا انطباعاً في ذهني، أن شخصاً تحبه أو تحترمه، مثل والدي -وهو سلطة- يمكن أن ينام على عجلة القيادة وتجب مراقبته. ليس لأنهم كانوا سيئين، ولكن لأنهم كانوا غير مهتمين، ربما، بالمخاطر".
نشأ إلسبرغ في ديترويت، ثم التحق بجامعة هارفارد، حيث حصل على درجة البكالوريوس في الاقتصاد عام 1952. بعد ذلك، ذهب للدراسة في جامعة كامبريدج بمنحة فولبرايت، ثم تابع الدكتوراه في الاقتصاد بجامعة هارفارد.
بعد حصوله على الدكتوراه، التحق إلسبرغ بمؤسسة RAND، وهي مؤسسة فكرية مشهورة بأبحاثها حول الاستراتيجية والسياسة العسكرية. وهي المؤسسة التي فتحت له أبواب العمل كمحلل استراتيجي في البنتاغون في عام 1964.
عمله مع البنتاغون
حتى عندما كان الرئيس ليندون جونسون يعد بعدم إرسال أبناء أمريكا للموت في آسيا، كُلِّف إلسبرغ بالمساعدة في تعزيز الوجود الأمريكي في فيتنام.
أمضى إلسبرغ عامين في فيتنام وأصبح قريباً من ضابط الجيش السابق جون بول فان، الذي اشتهر بشجاعته في مواجهة الخطر والاندفاع في سعيه لإصلاح ما عدها سياسات أمريكية مضللة بشكل خطير في فيتنام.
كان فان وأولئك الذين في دائرته ينظرون إلى إلسبرغ على أنه "شخص آخر في مجموعة صغيرة من الأمريكيين الذين تجرؤوا واهتموا"، وفقاً لما كتبه نيل شيهان، الصحفي الذي كان أول من نشر أجزاء من أوراق البنتاغون، في كتابه "كذبة ساطعة: جون بول فان وأمريكا في فيتنام".
ومع استمرار الحرب، أصبح إلسبرغ يشعر بالذنب بشكل متزايد وملتزم مشاركة ما يعرفه. وقال في وقت لاحق عن الحرب: "لم يكن الأمر أننا كنا في الجانب الخطأ. كنا الجانب الخطأ".
كشف الحقيقة
بدأت رحلة إلسبرغ من استراتيجي عسكري إلى مُبلغ عن المخالفات خلال الفترة التي قضاها في RAND، حيث كان يتمتع بامتياز الوصول إلى الوثائق الحكومية السرية. قادته مشاركته في دراسة صنع القرار في حرب فيتنام إلى التشكيك في الأسس الأخلاقية لتورط الولايات المتحدة في الصراع.
وبعد أن شاهد التناقض الصارخ بين التصريحات العلنية للحكومة والتقييمات الخاصة التي أدلى بها الخبراء العسكريون، شعر إلسبرغ بأنه مضطر لاتخاذ إجراء. في عام 1971، قام سراً بنسخ وتسريب ما أصبحت تُعرف باسم "أوراق البنتاغون"، للصحافة.
كشفت هذه الوثائق السرية، التي امتدت لأكثر من عقدين، عن مدى خداع الحكومة والمعلومات المضلِّلة المحيطة بحرب فيتنام. حددت الأوراق تاريخ التدخل الأمريكي، وسلّطت الضوء على حالات التفجيرات السرية والعمليات السرية والخداع المنهجي للجمهور الأمريكي.
كان لنشر أوراق البنتاغون نتائج بعيدة المدى. لم يفضح فقط الأكاذيب التي ارتكبتها الحكومة، ولكنه أدى أيضاً إلى تأجيج خيبة الأمل العامة والمشاعر المناهضة للحرب. كثفت هذه الاكتشافات الدعوات إلى إنهاء الحرب وأطلقت سلسلة من التداعيات القانونية والسياسية.
بطل أم خائن؟
واجه إلسبرغ اتهامات بموجب قانون التجسس، التي تنطوي على إمكانية الحكم عليه بالسجن لمدة طويلة. ومع ذلك، رُفضت الدعوى المرفوعة ضده في النهاية بسبب سوء تصرف الحكومة، بما في ذلك المراقبة غير القانونية ومحاولة السطو على مكتب طبيبه النفسي. أسهمت هذه الأحداث بدورها في فضيحة "ووترغيت" واستقالة الرئيس ريتشارد نيكسون لاحقاً.
على أثر ذلك، وصف البعض إلسبرغ بأنه بطل، وآخرون وصفوه بالخائن. اشتدت تلك النقاشات على مر السنين، وعادت إلى الظهور كلما حاول شخص ما تسليط الضوء على الحقائق المؤلمة.
يقول شيهان: "كان تحول إلسبرغ من محارب متفانٍ إلى ناشط سلام متحمس رمزاً لما شهده الكثير من الأمريكيين خلال الستينيات".
وفي العقود التي تلت ذلك، واصل إلسبرغ دوره في الدفاع عن السلام والشفافية. وأصبح شخصية بارزة في النشاط المناهض للأسلحة النووية، حيث ركز على مخاطر الأسلحة النووية ودافع عن نزع السلاح النووي.