عايشَ المفكر العربي الفلسطيني منير شفيق مراحل الصراع العربي-الإسرائيلي كافة منذ بدايته عام 1948 حتى يومنا هذا، فعمره -كما يصفه- أكبر من دولة إسرائيل.
ومارس شفيق المولود عام 1934 العمل السياسي منذ مراحل مبكرة من حياته، وانخرط في صفوف الحركة الوطنية الفلسطينية منذ بدايتها في النصف الأول من القرن الماضي.
المفكر التسعيني الذي شهد أحداث نكبة الشعب الفلسطيني يقارِن، في مقابلة مع TRT عربي، بين ما جرى فيها من أحداث والحرب الإسرائيلية الحالية على غزة، مشيراً إلى استحالة الوصول إلى حل سلمي للقضية الفلسطينية في ظل رفض الاحتلال الإسرائيلي، والدعم الغربي اللا محدود لإسرائيل.
ويوضح أن الحديث عن الدولة الفلسطينية ليس بالجديد، بل يعود إلى بدايات القضية الفلسطينية، وظل ملازماً لها في مراحلها المختلفة من دون أن يؤدي إلى شيء، لكنه مع ذلك يؤكد إيمانه بحتمية انتصار الشعب الفلسطيني ومقاومته، وتراجع وضعف إسرائيل ومشروعها في فلسطين.
كيف رأيتم ما جرى ويجري في غزة؟ وما استثنائية السابع من أكتوبر/تشرين الأول؟
أعمل في المجال السياسي منذ وقت مبكر بصورة تُمكّنني من القول إن عمري أكبر من عمر دولة "الكيان الصهيوني"، ومع ذلك طول الـ75 عاماً التي عشناها مع هذا "الكيان"، لم نشهد مثل هذا الحدث الاستثنائي وأثره الزلزالي -باعتراف الاحتلال- الذي أكد أنه لم يسبق له مثيل إلا ما جرى في 6 أكتوبر/تشرين الأول 1973 عندما سقط جدار بارليف بعد الهجوم المصري.
وما يعزز خصوصية عملية السابع من أكتوبر/تشرين الأول أنها جاءت من غزة وفلسطين بالإضافة إلى أنها المرة الأولى التي يهاجم فيها "الكيان الصهيوني" في عقر داره، ويتعرض فيها الجيش "الصهيوني" وفرقة غزة لهذا المستوى من القتل والأسر الموثق بالصوت والصورة.
عايشت النكبة.. هل يشبه الحدث الذي يجري في غزة الآن ما وقع يومها؟ وهل استحضرتَ هذه المشاهد خلال متابعتك لمجريات الحرب؟
لا يوجد أي مشهد يشبه ما جرى عام 1948، فالمجازر التي نراها لم يسبق لها الحدوث، حتى خلال حرب النكبة 1948 ارتُكبت مجازر عدة لكنها أصغر حجماً، استُشهد فيها من 60 إلى 100 فلسطيني حتى يُشرِّد الناس ويقتلعهم من قراهم ومدنهم، لكنه في الوقت نفسه ظل يخفيها وينكرها، ولم تنكشف تفاصيلها إلا لاحقاً بعد عشرات السنوات، مثل مجزرة الطنطورة التي كُشفت تفاصيلها بعد 30 عاماً.
وبعض المجازر مثل دير ياسين التي اشتهرت ولعبت دوراً كبيراً في تلك المرحلة، أنكرت الوكالة الرسمية ارتكابها وحمّلتها لعصابة "شتيرن" التي كان يتزعمها بيغن وشامير.
لكن الذي نراه بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول أن "الكيان الصهيوني" فقد صوابه ودخل في الجنون واللا عقلانية، عبر ارتكاب مجازر بلا حدود وعلى مدار الساعة وبصورة علنية. هذه الظاهرة لم يسبق أن وقعت، لأنه لم يسبق للاحتلال أن تعرض لمثل هذه الهزيمة.
ومن المهم التنويه إلى قضية تُثار لدى البعض حول العلاقة ما بين عملية السابع من أكتوبر/تشرين الأول والمجازر "الصهيونية"، خصوصاً أن البعض يُحمِّل العملية مسؤولية هذه المجازر التي يجب التعامل معها على أنها جريمة قائمة بذاتها ولذاتها، ولا يمكن أن ترتبط بأي سبب آخر لتخفيفها أو تبريرها.
عملية السابع من أكتوبر/تشرين الأول كانت عملية عسكرية بكل ما تحمل الكلمة من معنى، كان الأولى أن يستوعب (الاحتلال) الدرس عسكرياً ويرد عليه عسكرياً، لكن أن يصل إلى هذا الحدّ من المجازر فهذا يعبر عن قرار "صهيوني" لا علاقة له بما حدث في 7 أكتوبر/تشرين الأول.
نصَّت مجموعة من القرارات الدولية على إعطاء الشعب الفلسطيني جزءاً من حقوقه، دائماً ما قابلها رفض من الحكومات الإسرائيلية، آخرها رفض نتنياهو قيام الدولة الفلسطينية، ودائماً يجد مَن يناصره تحت دعوى الدفاع عن النفس، كيف تقرأ السلوكين الإسرائيلي والغربي؟
عدم الاعتراف "الصهيوني" بالقرارات الدولية تاريخي، منذ صدور القرار 181 الخاص بتقسيم فلسطين عام 1947، الذي اعتمد عليه في إعلان دولته، لم يطبق "الكيان الصهيوني" القرار الذي تضمن إنشاء دولة لليهود ودولة للفلسطينيين، إنما أخذ منه ما يتوافق مع مشاريعه وتجاهل بقية القرار، لأن المشروع "الصهيوني" في جوهره يريد كل فلسطين، ولا يقبل بأي دولة فلسطينية تحت أي ظرف من الظروف.
ورغبةً في استيعاب ردة الفعل الشعبية بعد قيام "الكيان الصهيوني" عام 1948، أبقت القوى الغربية على الأمل بتطبيق قرار التقسيم والترويج لإمكانية بناء دولتين فلسطينية ويهودية، وظل ذلك قائماً حتى عام 1967، وظلت المنطقة خلال هذه الفترة (1949-1967) تحت وهم إمكانية تطبيق قرار التقسيم وقيام دولة فلسطينية إلى جوار اليهودية.
وعندما وقعت حرب 1967 وحلّت كارثة أخرى بالشعب الفلسطيني بمستوى نكبة 1948، باحتلال قطاع غزة والضفة الغربية، عاشت المنطقة مرة أخرى تحت وهم إمكانية تطبيق حل الدولتين، لكن هذه المرة على حدود 1967، وتجاهل الغرب قرار التقسيم وأصبح الحديث يدور حول حدود 1967.
على الرغم من أن الاحتلال لم يعترف بقرار 242، الذي يفرض على الاحتلال الانسحاب من الأراضي التي احتلها عام 1967، واستمر في سياسة الاستيلاء على كامل فلسطين، فيما ترك المجال للأمريكان والقوى الأخرى للقول بإمكانية تطبيق حل الدولتين، وذلك لخداع الفلسطينيين وتخدير الرأي العام.
الجدير بالذكر أن "الكيان الصهيوني" عند قبوله بعضوية الأمم المتحدة، اشترط عليه تطبيق قرار التقسيم وعودة اللاجئين إلى ديارهم، ولم ينفذ أياً من ذلك، ما يعني أن عضويته في الأمم المتحدة غير مشروعة ومنقوصة ولا تلبي الشروط.
ما أريد قوله إن الهدف النهائي للمشروع "الصهيوني" هو الاستيلاء على كل فلسطين، وبالتالي أي شخص يتخيل أن المشروع "الصهيوني" يفكر بأنه يمكن قبول دولة فلسطينية، واهم. وهذا الرأي غير مقتصر على المتطرفين والمتدينين، إنما يمثل الإجماع "الصهيوني" الذي عبَّرت عنه الحركة "الصهيونية" وشخصيات مثل بن غوريون، منذ اليوم الأول لقيام المشروع "الصهيوني" في فلسطين.
والدليل أنه خلال الـ75 عاماً الماضية لم يقْدم "الكيان الصهيوني" على أي خطوة تجاه الحل، رغم أن الفلسطينيين تنازلوا عن عدد من حقوقهم واعترفوا بـ"الكيان الصهيوني"، إلا أن حقهم في إقامة دولة على حدود عام 1967 أصبح خاضعاً للنقاش والحوار، هذا يثبت أنه لا أُفق لأي دولة فلسطينية أو إمكانية لحل القضية الفلسطينية، كما أن "الكيان الصهيوني" لا يملك أخذ كل فلسطين وترحيل كل سكانها.
القانون السائد أن هناك دائماً حرباً تليها هدنة، فلا الولايات المتحدة ولا أوروبا تضغط بشكل حقيقي على "الكيان الصهيوني" ليقدم أي شيء، حتى الدولة منزوعة السلاح التي تَقبَّلها مَن دخل في مسار أوسلو لم يقبل بها "الكيان الصهيوني".
هذا الوهم والحديث عن حل الدولتين يجب أن ينتهي، إذ إن الوصول إلى حل الدولتين يستلزم فرض ضغط حقيقي على "الكيان الصهيوني" لإجباره على القبول بها، وهذا ما لا يُتوقع حدوثه، حتى جريمة الإبادة الجماعية التي تُرتكب بحق الشعب الفلسطيني تغطي عليها دول الغرب تحت مبرر الدفاع عن النفس.
في القانون الدولي لا يجوز للمحتل الدفاع عن نفسه، وعلى العكس تعد المقاومة فعلاً مشروعاً، ما الذي يعنيه حق الدفاع عن النفس؛ أن تُرتكب جرائم إبادة جماعية؟ تحت أي قانون أو منطق يجري ذلك؟
هذا يدل على أن دول الغرب -وتحديداً الولايات المتحدة وبريطانيا- مصرّة على أن يرتكب "الكيان الصهيوني" إبادته الجماعية وحربه على المقاومة التي سيكون لها وللشعب الفلسطيني الانتصار في النهاية.
في ظل المجازر التي يرتكبها الاحتلال بحق سكان غزة، وحالة الخذلان التي يعيشها أهالي القطاع، كيف يمكن أن تلمس معالم الانتصار الفلسطيني؟
الحرب في غزة لها وجهان؛ الأول موجَّه ضد المدنيين ويظهر في القتل والتدمير الذي يتعرض له سكان القطاع، والآلاف من الشهداء والدمار الواسع الذي تعرضت له البنية التحتية، والآخر متعلق بالأداء العسكري الميداني.
وعلى صعيد العملية العسكرية، وتحديداً الاجتياح البري، باعتراف كل قادة الاحتلال، لم يحقق جيشهم أي إنجاز ملموس على مدار الأشهر الخمسة الماضية. لو نظرنا إلى طبيعة العمليات العسكرية، نجد أن الأنفاق لها أهمية خاصة في تكتيكات المقاومة، فجيش الاحتلال يمكنه القصف بالطائرات والتقدم بواسطة الدبابات ودخول المدن، لكنه سيواجه صعوبة في الاستحكام والتمركز، لأن المقاومة لديها القدرة على استنزافه وضربه، في هذه الحرب تَحوَّل المهاجم إلى مدافع، والعكس بالعكس؛ المدافع إلى مهاجم وصاحب المبادرة.
في حرب يوليو/تموز 2006 خسر الاحتلال جزءاً من دباباته في معركة وادي حجير، ما دفعه إلى الانسحاب لاحقاً، في هذه المعركة وعلى مدار خمسة أشهر يتكبد الاحتلال مئات الضربات في الآليات والمدرعات بالإضافة إلى القتلى والإصابات في الجنود والضباط.
حتى الآن في المقياس العسكري وعلى مدار خمسة أشهر من العمليات، لا يوجد أي مؤشر على انتصار للاحتلال وتحقيق أهدافه في قطاع غزة، إنما العكس تماماً.
أما الجانب الثاني الخاص بقتل المدنيين، فهناك مجزرة كبيرة؛ وهي مؤلمة جداً لكنّ نتائجها الكارثية ستطول كذلك "الكيان الصهيوني"، فالآن سمعة "الكيان" في العالم تبلور فيها رأي عام عالمي ضده، وكذلك الصورة التي وُسم بها بوصفه مجرم حرب يمارس الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني. هذه الخسائر لا تقل خطورتها الاستراتيجية عن الهزيمة العسكرية التي تعرض لها. هذا حذَّر منه بايدن الذي يعاني تبعات ذلك هو الآخر، ففي كل اجتماعاته الانتخابية تظهر الاحتجاجات المنادية بوقف الحرب على غزة.
وذلك ينعكس على تصورات الأجيال الجديدة وموقفها من "الكيان الصهيوني"، خصوصاً مع تصاعد الأصوات الداعية إلى إعادة النظر في العلاقة مع "الكيان" وحاجة الولايات المتحدة إلى العلاقة معه التي تشهد أصواتاً تنادي بالحرية لفلسطين من النهر إلى البحر.
من المهم تناول ما يجري بصورة عقلانية، الاحتلال صعد إلى الشجرة ولا يستطيع النزول منها. ما زالت موازين القوى لمصلحة المقاومة، واليوم التالي للحرب هو وريث اليوم الأخير للحرب. لو كانت قيادة "الكيان" عاقلة لما ذهبت إلى الحرب بهذا الشكل.
لو نظرنا إلى الجيل الحالي والجيل الذي أسس إسرائيل نلاحظ فارقاً واضحاً في قدرات الجيلين، كيف ترى هذا التمايز وانعكاسه على الشعب الفلسطيني؟
أتفق معك فيما يتعلق بمستوى القيادة الحالية، فهي لا تقارَن على مستوى العقلانية والكفاءة مع بن غوريون وجيله الذين قَدِموا من أوروبا وكان جزء منهم يحمل أفكاراً يسارية، لكنّ الحاليين مثل بن غفير وسموتريتش تقودهم الرغبة والصدمة لا الحقائق والوقائع.
لكن من المهم التنويه إلى أن نكبة فلسطين لم تكن فقط نتيجة عقلانية بن غوريون، بل ساهمت بريطانيا بدور أساسي فيها، عبر سحب سلاح الفلسطينيين، وحرمان فلسطين من عمقها العربي الذي كان يخضع للاحتلال البريطاني والفرنسي، حتى عندما دخلت الجيوش العربية فلسطين كان التفوق العددي للقوات الصهيونية بنسبة تقارب 3 إلى 1.
كما أن جزءاً من فلسطين سقط في يد "الصهاينة"، وبريطانيا لم تخرج بعد من فلسطين، أي قبل 15 مايو/آيار 1948، بالإضافة إلى ذلك الوضع الدولي كان في صالح "الصهاينة" في ذلك الوقت، إذ قدمت بريطانيا فلسطين على طبق من ذهب لهم، والولايات المتحدة كانت أقوى وإلى جوارهم وكذلك الاتحاد السوفييتي.
أما الآن فالوضع يختلف، أمريكا أضعف من السابق في ظل وجود قوى إقليمية داعمة للمقاومة، وحراك جماهيري عالمي. صحيح أن الموقف العربي والإسلامي ليس بالمستوى المطلوب، لكنّ وجود المقاومة يعزز من قدرة الفلسطيني على منع انتصار المشروع "الصهيوني" الذي يظهر ضعيفاً وليس بمستوى ما كان عليه في وقت بن غوريون وديان ورابين وغيرهم.
في ظل تراجع إسرائيل، لماذا لا يوجد موقف عربي يستغل هذه الحالة من أجل الضغط عليها والاستفادة من هذه اللحظة؟
الحالة العربية تعاني ضعفاً استراتيجياً غير مسبوق، لكنّ هذا الضعف خدم المقاومة الفلسطينية عبر تمكينها من قرارها المستقل، في سنوات الستينيات والسبعينيات كانت القوى العربية هي المتمسكة بالقرار الفلسطيني. لأول مرة الشعب الفلسطيني يمتلك قراره المستقل والقدرة على بناء قوته الخاصة.
أما الغرب وعلاقته مع "الكيان الصهيوني" فهي علاقة استراتيجية فريدة. الكل شاهد كيف استُنفر الغرب لحماية "الكيان" وتخلى عن كل قيمه في سبيله، هذا الأمر أفقد الغرب كثيراً من أسلحته التي كان يستخدمها تحت مبرر التنوير والأدب، فالآن لا يملك الغرب أن يقول للصين أو روسيا «أنتم دول مستبدة»، في ظل دعمه الجرائم التي تُرتكب في غزة.