حطّمت حرب الإبادة التي يشنّها جيش الاحتلال الاسرائيلي ضد الأبرياء في غزة كثيراً من الأساطير والصور النمطية، والمقولات الراسخة حول المجتمع الإسرائيلي.
فالحرب، التي تقترب من عامها الثاني وامتدت على سبع جبهات متزامنة، باتت تُسجَّل كأطول حرب تخوضها إسرائيل في تاريخها، متجاوزة بذلك حتى حرب النكبة.
كانت التصورات والتساؤلات مطروحة حول قدرة إسرائيل على تحمّل حروب طويلة أو متعددة الجبهات، وميل مجتمعها إلى الفرار والهجرة، واحتمال الخسائر البشرية وكلفة القتال الطويل.
كما كانت نقطة وجود أسرى لدى المقاومة تجبر إسرائيل على التراجع، وتشكّل نقطة ضعف حاسمة في صلابتها الاستراتيجية، لكن الواقع الجديد يكشف عن صورة أكثر تعقيداً لديناميات هذا المجتمع والاستمرار في الحرب رغم الكلفة والتحديات.
ما شهدناه يطرح تساؤلات جوهرية: كيف نفهم المجتمع الإسرائيلي؟ وهل شهد هذا المجتمع تحوّلات بطيئة وعميقة غيّرت طبيعته، وأعادت تشكيل بنيته الذهنية والسياسية والاجتماعية، كما أعادت تعريف عقيدته الأمنية والعسكرية؟
مهما كانت الإجابة، فإن المؤكد أننا أمام مشهد جديد لا يصح التعامل معه بالأدوات المعرفية نفسها التي دائماً ما وجّهت قراءتنا وتحليلاتنا.
لقد سادت نظرة تبسيطية إلى المجتمع الإسرائيلي، نظرة مشحونة بالمواقف المسبقة، ويغلب عليها الجمود، والاستخفاف، والشعارات، وخصوصاً في أوساط الإعلام وصنّاع القرار، وكذلك لدى الحركات التي تبنّت خيار المقاومة كهدف مركزي في مشروعها السياسي.
في المقابل، تبنّت فئات أخرى موقفاً مناقضاً، طغت عليه مشاعر الانبهار والدونية والعجز، فخلصت إلى أن إسرائيل دولة لا تُهزم، وأن الطريق الأنجع للتعامل معها يكمن في مواءمة تطلعاتنا مع السقوف التي تحددها قيادتها لمسار سياسي قد يفضي إلى تسوية ما.
ورغم تباين الموقفين، فإن كليهما انطلق من رؤية انطباعية لا علمية، اختزلت إسرائيل في صورة كيان واحد متجانس يتحرك ضمن مسار ثابت نحو نهاية محسومة، دون أن تأخذ في الحسبان تحوّلات الواقع العالمي والإقليمي التي طالت إسرائيل أيضاً، فضلاً عن إغفال التعقيدات الداخلية المتصلة بالبنية الديموغرافية، والأزمات المتراكمة، والانقسامات الاقتصادية والاجتماعية التي تعصف بالمجتمع الإسرائيلي وتُعيد تشكيله.
يميل المجتمع الإسرائيلي، كما بيّنت نتائج الانتخابات في العقد الأخير، نحو مزيد من التطرّف والانجذاب إلى أفكار اليمين المحافظ اجتماعياً، والفاشية والعدمية سياسياً.
ويعود هذا الانزياح إلى تحوّلات داخلية فرضتها تركيبة سكانية باتت الغلبة فيها للمستوطنين، والمتدينين، واليهود الشرقيين، الذين باتوا يشكّلون القاعدة الاجتماعية الأعرض، مستفيدين من تغلغلهم في مفاصل الدولة، والأجهزة الأمنية، والمؤسسات السياسية والقضائية، ومن سيطرتهم المتزايدة على الخطاب العام والإعلامي.
وقد أفضت هذه التحوّلات إلى انفجار التناقضات الداخلية في صورة ما عُرف بـ"الثورة القضائية"، التي قادها رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، في محاولة لإعادة تشكيل مؤسسات الدولة بما يتلاءم مع الأيديولوجيا اليمينية الجديدة.
لكن هذه الخطوة قوبلت بموجة معارضة واسعة أفضت إلى أحد أعمق الانقسامات وأكبر موجات الاحتجاج في تاريخ إسرائيل.
سياسياً، بلغ هذا التغيير ذروته مع تشكيل حكومة يمين فاشي، تولّت فيها شخصيات كانت إلى وقت قريب تمثّل الهامش الأكثر تطرفاً في الخريطة الحزبية، من أمثال بتسلئيل سموتريتش (وزير المالية)، وإيتمار بن غفير، وأوريت ستروك. وجميعهم مستوطنون ارتبطوا بسوابق عنف وعنصرية، وُكلت إليهم وزارات بالغة الحساسية أمنياً واقتصادياً وسياسياً.
وقد انعكس هذا التكوين بوضوح في برنامج الحكومة الذي تصاعدت فيه سياسات تهويد القدس، وتوسيع الاستيطان في الضفة الغربية، وتضييق الخناق على الفلسطينيين في الداخل، وصولًا إلى الحرب المدمّرة على غزة.
أما على المستوى العسكري، فقد حلّت مفاهيم الانتقام والحسم واستئصال "العدو" والتمسّك بالأرض، محلّ مفاهيم الردع، والحروب الخاطفة، واستخدام القتال أداة تمهيدية للتسويات السياسية.
شكّلت صدمة السابع من أكتوبر وما رافقها من مشاعر خوف وجودي طفت على السطح في إسرائيل فرصة لكشف التحوّلات العميقة التي طرأت على بنيتها السياسية والاجتماعية، كما مثّلت ميدان اختبار حقيقياً لصيغة "إسرائيل الجديدة" التي أخذت تتشكّل خلال السنوات الأخيرة.
لكن فهم هذه التحوّلات لن يكون ممكناً دون مراجعة جذرية للأفكار المسبقة، والتخلّي عن الأحكام الانطباعية، والانخراط في قراءة متأنية ومستمرة لتحوّلات المجتمع الإسرائيلي ضمن سيرورة ما زالت في طور التشكل.
لا شكّ أن هذه الحرب، بنتائجها القاسية على إسرائيل داخلياً وخارجياً، والمكانة المتدنية التي بلغتها في نظر العالم، والثمن الباهظ الذي دفعته بشرياً وعسكرياً، ستُسهم في إعادة تعريف هويتها ومسارها المستقبلي.
ولعلّ استخدام رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو لعبارات مثل "حرب استقلال ثانية"، و"معركة وجود"، و"نهوض جديد" يعكس طموحه في استثمار الحرب لبناء إسرائيل محافظة، عرقية، عسكرية، ومهيمنة إقليمياً، ترى في السلام تتويجاً للنصر العسكري، وتعتبر التسويات تنازلاً لا يليق بدولة "قادرة على الحسم".
لكن السؤال الأساسي يبقى: هل أخفقنا فعلاً في فهم إسرائيل؟
الإجابة ستكون بالإيجاب ما لم نُعد النظر في أدواتنا التحليلية، ونتوقّف عن إسقاط رغباتنا وشعاراتنا الجاهزة على واقع يتغيّر أمام أعيننا.
صحيح أن الحرب كشفت عن تحوّلات بنيوية عميقة، لكنها أظهرت في المقابل نقاط ضعف وثغرات داخل المجتمع الإسرائيلي، تمنعه من الانفصال الكامل عن صورته القديمة. وهذا ما يجعل سيرورة التحوّل نفسها عرضة للارتداد، إذا ما قوبلت بوعي نقدي واستراتيجيات مواجهة تتجاوز الخطاب التقليدي.
إن قراءة المجتمعات في أثناء الحروب مهمة معقدة، فالحرب تدفع المجتمعات إلى أقصى حدودها، وتفرض أولويات استثنائية قد تكون مؤقتة أو معكوسة. ومع ذلك، فإن الحروب تظل لحظات كاشفة ومحطات فاصلة، تُفصح فيها المجتمعات عن مخزونها العميق، وتخرج التراكمات المؤجلة على شكل سياسات، وخطابات، وسلوكيات تنبئ بما هو قادم.
جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كتّابها، ولا تعبِّر بالضرورة عن TRT عربي.