طفا إلى السطح ملف فساد جديد في تونس، بعد أن أعلنت السلطات الاثنين، توقيف وزير البيئة والشؤون المحلية المُقال مصطفى العروي "تحفظياً" للتحقيق في قضية توريد شحنات نفايات إيطالية إلى البلاد، بعد يوم من إعلان رئيس الحكومة التونسية هشام المشيشي إعفاء الوزير.
وفي انتظار محاكمة العروي إضافة إلى عدد من كبار مسؤولي وزارة البيئة والشؤون المحلية وإدارة الجمارك أمام محكمة سوسة شرقي البلاد، تعود إلى السطح قضية استيراد تونس حاويات تحتوي على نفايات سامة من إيطاليا، لا تُطابق معايير استيراد النفايات حول العالم، والتي كانت قد أثارت ردود فعل غاضبة وسجالاً سياسياً ومجتمعياً في تونس في شهر يوليو/تموز الماضي.
شركة "سوريبلاست".. جذور القصة المُتشعّبة
حجزت الجمارك التونسية، نهاية يوليو/تموز، عشرات الحاويات التي تحتوي على نفايات منزلية آتية من إيطاليا، ما أثار شبهات فساد لا سيما أن القانون التونسي يحظر استيراد هذا النوع من النفايات "الخطرة".
اللافت أن صاحب شركة تونسية تُدعى سوريبلاست SorePlast مطلوبٌ أيضاً وهو "في حالة فرار منذ فتح القضية". هذه الشركة هي المسؤولة عن استيراد الحاويات بعد أسابيع قليلة من استئناف نشاطها في مايو/أيار الماضي بعد توقف طويل، وهي تملك ترخيصاً يخوّلها إعادة تدوير نفايات بلاستيكية صناعية وتصديرها.
ومنذ أن حجزت الجمارك التونسية في مرفأ سوسة شرقي البلاد 70 حاوية كبيرة، ثم 212 حاوية مماثلة بعد أيام قليلة بداية صيف 2020، تتبادل وزارة البيئة من جهة والجمارك التونسية من جهة أخرى التهم وتحمل كل منهما الأخرى المسؤولية، كما ينظر إلى السلطات الإيطالية على أنها تتحمل كذلك جزءاً منها.
وحملت الحاويات شحنات من النفايات المنزلية يُحظر على تونس استيرادها، وعلى الدول الأوروبية تصديرها إلى إفريقيا، بموجب القانون الدولي والمعاهدات الدولية التي تصنفها على أنها "خطرة".
بالتزامن مع وصول الحاويات، تُظهر نسخة من طلب مبدئي من شركة سوريبلاست أنها طلبت الترخيص لتستورد "مؤقتاً... نفايات من البلاستيك بعد تصنيع غير خطير"، من أجل "إجراء عمليات الفرز والتدوير وإعادة التصدير للأراضي الأوروبية"، حسب ما نقلته وكالة الصحافة الفرنسية.
ويؤكد مصدر مسؤول في الجمارك التونسية أن هذه الوثائق تكشف أن سوريبلاست قدّمت معلومات مغلوطة حول طبيعة البضائع التي استوردتها، إذ إن عقداً موقعاً بين سوريبلاست وشركة إيطالية يقر بشكل واضح بأن "الهدف هو الحصول على نفايات وإتلافها لاحقاً" في تونس.
الشركة الإيطالية المعنية التي وقّعت سوريبلاست العقد معها تُدعى Sviluppo Risorse Ambientali، ومقرّها مدينة نابولي، وهي شركة متخصصة في جمع النفايات في مدينة كامبانيا التابعة لإقليم نابولي.
ويتضمن العقد بين الشركتين التونسية والإيطالية اتفاقاً على إتلاف 120 ألف طن من النفايات في تونس كحد أقصى، مقابل 48 يورو للطن الواحد، بمجموع يتجاوز 5 ملايين يورو.
"لوبيات فساد كبيرة".. مسؤولية مُعلّقة!
هذا الملف يكشف عن تفرّعات لتجارة النفايات غير المشروعة حول العالم، وهي تجارة تتزايد في إفريقيا خصوصاً بعد أن أصبحت بعض دول آسيا مترددة في مواجهة تشديد المعايير الأوروبية، وهو ما حذّر منه تقرير للإنتربول صدر في أغسطس/آب الماضي، لافتاً إلى الارتفاع الكبير في عدد شحنات نفايات البلاستيك غير القانونية منذ عام 2018.
وبعيداً عن استيراد نفايات الخارج، يُعدّ ملف التصرف في النفايات المحلّية في تونس أحد المشاكل التي تواجه السلطات، فحسب تقرير للبنك الدولي فإن 61٪ من نفايات العاصمة يتم جمعها ووضعها في مدافن قمامة مكشوفة، وهو ما يُشير إلى أن الفساد الإداري في قضية النفايات في تونس بات مُركّباً.
هذا الأمر يُشير إليه أيضاً عدد التوقيفات ونوعيتها في تونس، إذ قال المتحدث باسم المحكمة الابتدائية في سوسة، جابر الغنيمي، إن عدد الموقوفين على ذمة التحقيق في هذه القضية بلغ 23 شخصاً، بينهم مدير ديوان وزارة البيئة، ومدير "الوكالة الوطنية للتصرف في النفايات"، ومديرون آخرون في الوكالة وفي "الوكالة الوطنية لحماية المحيط"، ومسؤولون في إدارة الجمارك وصاحب مختبر كيميائي خاص.
وفي مؤشّر على تشعّب القضية أيضاً، أوضح الغنيمي أن النيابة العامة استدعت، الاثنين، 10 أشخاص آخرين للمثول أمامها دون توقيفهم، من بينهم وزير البيئة الأسبق شكري بلحسن ومسؤولون في الوزارة والجمارك، إضافة إلى قنصل تونس في مدينة نابولي الإيطالية بيّة بن عبد الباقي.
في هذا الصدد، قال الخبير في تثمين النفايات وعضو تحالف "تونس الخضراء"، حمدي شبعان إن "هذه القضية تُظهر وجود لوبيات فساد كبيرة"، مضيفاً أن وزارة البيئة تعرضت لضغوط من رجال أعمال في السنوات الأخيرة للسماح بتوريد النفايات، وهذه "ليست المرة الأولى" التي تكشف فيها قضية مماثلة.
هذه القضية تُظهر وجود لوبيات فساد كبيرة
وقال قسم الاتصال بوزارة البيئة إن الوزير المُقال مصطفى العروي "أكد أنه لم يوقع على أي وثيقة" تُرخّص للشروع في استيراد نفايات، في حين تساءل مدير "الوكالة الوطنية للتصرف في النفايات" التابعة لوزارة البيئة بشير يحيى، قائلاً: "كيف للجمارك أن تسمح بدخول النفايات للأراضي التونسية، بينما ليس لها ترخيص رسمي؟"، حسب وكالة الصحافة الفرنسية.
بدورها، تستنكر الجمارك إعطاء الوكالة الضوء الأخضر لإخراج 70 حاوية من الميناء، وقالت إنها طلبت وثيقة تُحدّد طبيعة شحنات الحاويات قبل السماح لها بالخروج، مضيفة أن مدير الوكالة ردّ عليها في بريد إلكتروني قائلاً إنها "مواد من البلاستيك وليست نفايات خطرة".
هذه المراسلة بيّن فيها بشير يحيى أنه بعد اطلاعه على نتائج العينات لا يرى "أي مانع لتوريد هذه المواد البلاستيكية"، مؤكداً أنها "ليست خطرة"، وانطلاقاً من هذه المراسلة سمحت الجمارك بإخراج الشحنات الأولى من الميناء، وفقاً لما نقلته وكالة الصحافة الفرنسية عن مصدر من الجمارك.
غير أن يحيى يؤكد أن هذه المراسلة بُعثت في إطار التشاور وتبادل الآراء بينه وبين مسؤول في الجمارك، وتمثل "رأياً شخصياً" وليست "وثيقة رسمية"، مشيراً إلى أن الجمارك تُدرك أن ذلك غير كاف للترخيص بالاستيراد، حسب المصدر ذاته.
وما تزال 212 حاوية قابعة في ركن من الميناء، وزار فريق من الخبراء القضائيين الموقع للاطلاع على محتوى الشحنات، وهو ما تساءل حمدي شعبان حوله قائلاً: "أين كانت سترسل هذه الكميات الهائلة من النفايات التي لا تملك تونس وسائل لردمها؟"، في حال لم يتم الكشف عن هذه القضية.