حول نعمان غرفة صغيرة داخل منزله الكائن في مدينة دير البلح وسط قطاع غزة إلى صالون حلاقة بسيط، أعاد فيه إحياء مشهد من زمن الأجداد، حين كانت المقايضة الوسيلة الوحيدة للتبادل، فبدلاً من المال الذي فقد قيمته، بات زبائنه يدفعون ثمن الحلاقة بما يتوفر لديهم من مؤن غذائية بسيطة.
وكوسيلة جديدة للحصول على قوت يومه بدلاً من تقاضيه القليل من النقود التي لم يعد المواطن الغزّي البسيط باستطاعته شراء ما يسد جوعه فيها من المواد الغذائية، أعلن نعمان عبر وسائل التواصل الاجتماعي، عن فكرته، لتلقى تفاعلاً واسعاً، ويجد من خلالها طريقة لتجاوز أزمة العملة والسيولة المنهارة، سواء لنفسه أو لجيرانه.
يقول نعمان لوكالة الأناضول: "قبل الحصار والحرب، كانت حياتنا طبيعية، كنت أعمل وأكسب رزقي بكرامة. لكن اليوم، بالكاد أستطيع توفير احتياجاتي الأساسية".
ويضيف بابتسامة حزينة: "تذكرت حكايات أجدادنا عن أيام كانوا يدفعون القمح والشعير مقابل الحلاقة، ففكرت أن أجرب الفكرة، فما نخسره أكثر من أن نبقى بلا مورد".
سرعان ما توافد الزبائن على صالونه المتواضع، يحملون معهم ما توفر من طعام: علبة فاصوليا، كيس عدس، أو حفنة من الطحين، في مشهد يعكس التحول الجذري الذي فرضته الحرب على تفاصيل الحياة اليومية.
وتفاقمت المعاناة في غزة مع تدهور النظام المصرفي، واضطرار السكان للجوء إلى السوق السوداء مقابل عمولات باهظة لسحب أموالهم، ما استنزف ما تبقى من قدراتهم المعيشية، وفق تقرير المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان.
أما المساعدات الإنسانية، التي باتت تصل إلى القطاع بشق الأنفس، فغالباً ما تُلطّخ بالدم، إذ لم يتردد جيش الاحتلال الإسرائيلي في استهداف طوابير الجوعى قرب مراكز التوزيع، محولاً السعي خلف لقمة العيش إلى مغامرة مميتة.
وبينما تواصل إسرائيل إغلاق المعابر ومنع إدخال الإغاثة، تتصاعد التحذيرات الأممية من كارثة إنسانية وشيكة تهدد حياة مئات آلاف من المدنيين.
المقايضة وسيلة للتخفيف
في صالونه المتواضع بمدينة دير البلح، يستقبل الحلاق الفلسطيني نعمان عماد زبائنه ممن استبدلوا المؤن الغذائية بالنقود. أحد هؤلاء هو المواطن أبو رائد، الذي جاء مع طفله حاملاً كيساً من المعكرونة.
يقول: "رأيت إعلان نعمان على وسائل التواصل الاجتماعي عن الحلاقة مقابل الطعام، فقررت أن أُحضِر هذا الكيس المتبقي من المساعدات، لأنني لا أملك سيولة للدفع".
ويضيف أبو رائد، في حديثه لوكالة الأناضول، أن المبادرة "خفّفت كثيراً عن الناس، خصوصاً في ظل غياب الدخل وشحّ السيولة. العملة باتت بلا قيمة تقريباً، وأصبحت مجرّد ورق مهترئ لا يشتري شيئاً".
ويعكس هذا المشهد واقعاً مأساوياً يعيشه سكان غزة منذ سنوات، تفاقم مع اندلاع الحرب الأخيرة التي دمّرت البنية الاقتصادية للقطاع. فقد توقفت آلاف المؤسسات والمصانع عن العمل، وسُرّح عشرات الآلاف من وظائفهم، فيما أُغلقت المعابر ومنع دخول المواد الخام، وغابت المشاريع التنموية، ما جعل المساعدات الإنسانية المصدر الوحيد تقريباً للعيش.
في إحدى زوايا الصالون، تقف دانا، طفلة في السابعة من عمرها، تضمّ بين يديها علبة فول. تنظر بخجل إلى الحلاق قبل أن تهمس لمراسل الأناضول: "هاي لعمي نعمان، عشان يقص لي شعري".
أما على الكرسي المجاور، فقد أنهى شاب جلسة حلاقة سريعة، ثم أخرج من جيبه علبة تونة صغيرة وقدّمها لنعمان، الذي وضعها على رف خشبي بات يكتظ بالمعلبات، في مشهد يلخص كيف أصبحت هذه السلع عملة بديلة في غزة المحاصرة.
ومنذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 ترتكب إسرائيل -بدعمٍ أمريكي- إبادة جماعية في غزة تشمل القتل والتجويع والتدمير والتهجير، متجاهلةً النداءات الدولية وأوامر محكمة العدل الدولية بوقفها.
وخلَّفت الإبادة أكثر من 196 ألف فلسطيني بين شهيد وجريح، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 10 آلاف مفقود، إضافةً إلى مئات آلاف النازحين، ومجاعة أودت بحياة كثيرين، بينهم أطفال، فضلاً عن دمار واسع.
ومنذ اندلاع حرب الإبادة، شدّدت إسرائيل حصارها المالي على القطاع، فمُنعت البنوك من إدخال أي سيولة نقدية، واستُهدفت مقراتها وأجهزة الصرّاف الآلي بالقصف والتدمير، ما أدى إلى إغلاق شبه كامل للمصارف، حسب المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان.
وأوضح المرصد أن هذا الشلل المصرفي دفع السكان إلى اللجوء إلى السوق السوداء، إذ يضطرون إلى دفع عمولات باهظة لسحب أموالهم، ما استنزف ما تبقى من قدراتهم المعيشية في ظل أوضاع إنسانية خانقة.