وفي قرابة الساعة العاشرة والنصف مساء، تقدمت قوة جيش الاحتلال برفقة آليات مدرعة باتجاه البلدة، وبعد أقل من دقائق على توغله وقعت في كمين للمقاومة الفلسطينية أدى بحياة خمسة من الجنود وإصابة العشرات، جزء منهم حالته خطرة.
ووفقاً لتحقيقات أولية نقلتها يديعوت أحرونوت عن قيادة المنطقة الجنوبية، فقد وقعت الحادثة مساء الاثنين حين عبرت وحدة مشاة من كتيبة نيتساح يهودا طريقاً في شمال القطاع سيراً على الأقدام، في منطقة تنشط فيها دبابات وآليات هندسية تابعة للجيش.
وما إن تقدّمت القوة حتى انفجرت عبوات ناسفة زُرعت مسبقاً، لتقع في كمين مركّب، تعرّضت خلاله قوات الإخلاء التي حاولت إسعاف المصابين لإطلاق نار كثيف نفذته عناصر من المقاومة الفلسطينية، بحسَب ما نقلته يديعوت أحرونوت.
وأكدت الصحيفة أن الجرحى نُقلوا إلى مستشفيات داخل إسرائيل، وسط تقديرات أمنية تُشير إلى أن العملية كانت كميناً مخططاً مِن قِبل المقاومة الفلسطينية، استند إلى مراقبة تحركات الجيش الإسرائيلي مسبقاً، وزُرعت العبوات في نقاط رئيسية يُرجّح أنها أُخفيَت قبل يومين من تنفيذ الهجوم، بعد بدء العملية مساء السبت.
وبحسَب يديعوت أحرونوت فقد وقع الانفجار في منطقة قريبة من الحدود الشمالية للقطاع، وهي منطقة خاضت فيها قوات الاحتلال عشرات العمليات البرية منذ انطلاق التوغل العسكري في أواخر 2023. وخلال الليلة ذاتها دوّت صفارات الإنذار مرتين في مستوطنات غلاف غزة، المتاخمة لموقع الاشتباك.
تعود خلفية الهجوم، كما توضح يديعوت أحرونوت، إلى عملية برية واسعة أطلقها الجيش في بيت حانون مساء السبت، شاركت فيها وحدات من لواء الاحتياط 646 (المظليون الاحتياطيون)، إلى جانب قوات من اللواء الشمالي لفرقة غزة، إذ استهدفت القوات مجمعاً عسكرياً محصناً تابعاً للمقاومة على أطراف المدينة القريبة من الحدود، وذلك بعد أسبوع من القصف الجوي والبري المكثف على المحور نفسه.
وأشارت الصحيفة أن مقتلة بيت حانون تُعَدّ الأعنف منذ كارثة النمر الهندسي في خان يونس قبل نحو أسبوعين، التي أسفرت عن مقتل ضابط وستة جنود من وحدة الهندسة القتالية، جراء تفجير عبوة ناسفة في ناقلة جند مدرعة.
أفادت صحيفة يديعوت أحرونوت بأن إجمالي عدد قتلى جيش الاحتلال الإسرائيلي منذ بدء الحرب بلغ 888 جندياً، من بينهم 446 سقطوا خلال التوغل البري في قطاع غزة، في حين قُتل 39 جندياً بعد تنصل إسرائيل من اتفاق وقف إطلاق النار في مارس/آذار الماضي.
نمط مكشوف
في حديثه لبرنامج الصباح على إذاعة 103FM الإسرائيلية، مع أودي سيغال وعاتنت دافيدوف، قال المراسل العسكري لصحيفة معاريف، آفي أشكنازي، صباح الثلاثاء، إنّ قيادة جيش الاحتلال باتت تُدرِك أن حركة حماس طوّرت فهماً عميقاً لتحركات القوات الإسرائيلية وأساليب تعاملها مع حوادث الإصابات في الميدان.
وأشار إلى أن أسلوب حرب العصابات الذي تتبعه الحركة يُلحِق خسائر فادحة بالجيش، ما يتطلب -من وجهة نظر المؤسسة الأمنية- إعادة النظر في كيفية التعامل مع هذا التهديد المتجدد.
ولفت أشكنازي إلى أن سلسلة من الحوادث المتكررة مؤخراً تكشف نمطاً متطوراً من عمل المقاومة: تفجير عبوة ناسفة أو إطلاق نار تمهيدي على قوة إسرائيلية، ثم انتظار وصول فرق الإنقاذ والطواقم الطبية، يعقبها هجوم ثانٍ يشمل تفجيرات إضافية ونيراناً مباشرة.
ورغم أن هذا التكتيك ليس جديداً على الجيش، فإنّ استخدامه المتزايد مؤخراً من قبل حماس يدفع الجيش لإعادة تقييم شاملة لوسائل الكشف والوقاية، على حد قوله.
وفي الشق السياسي، شدد أشكنازي على ضرورة اتخاذ قرارات استراتيجية واضحة، قائلاً: "يجب أن نحدد بوضوح ما الذي نريده داخل غزة. فكرة تطهير شامل للقطاع حتى آخر بندقية كلاشنيكوف أمر غير واقعي. نحتاج إلى وضع حدّ لهذه الحرب، الإعلان عن استعادة الأسرى دفعة واحدة، ثم الانتقال إلى تموضع دفاعي يرتكز على إنشاء شريط أمني داخل القطاع".
وأضاف: "ينبغي أن نُصرّح بهذه الأهداف بوضوح وعلانية، لكن الواقع السياسي داخل الحكومة لا يسمح بذلك، في ظل توازنات تمنع اتخاذ خطوات حاسمة".
واختتم بالقول: "علينا أن نسأل أنفسنا بصدق: ما الذي نريده في نهاية المطاف؟ الأغلبية الساحقة من الإسرائيليين تريد الخروج من غزة، واستعادة الأسرى، وإقامة خطوط أمنية مشابهة لما فعلناه في لبنان وأماكن أخرى من الشرق الأوسط".
كتيبة الحريديم
ويُعَدّ كمين بيت حانون من الضربات المؤلمة التي تعرضت لها كتيبة نيتساح يهودا، وذكّرت صحيفة يديعوت أحرونوت أن عدد القتلى من الكتيبة في هذه الحادثة يعادل حصيلة خسائرها البشرية منذ بدء الحرب، إذ كانت الكتيبة قد فقدت أربعة من عناصرها سابقاً، بينهم ثلاثة قُتلوا بانفجار عبوة ناسفة في مايو/أيار 2024.
وتأسست كتيبة نيتساح يهودا عام 1999 باعتبارها وحدة عسكرية خاصة لليهود المتشددين (الحريديم)، يحيث يكون جميع الجنود والضباط فيها من الرجال.
وعلى مرّ السنين، وفي ضوء انخفاض عدد الحريديم الذين جُنّدوا في الجيش الإسرائيلي، بدأت الوحدة أيضاً ضم جنود من حركة فتيان التلال الاستيطانية المتطرفة. وشباب الحريديم لديهم آراء يمينية متطرفة، فلم يجرِ تضمينهم في وحدات قتالية أخرى في الجيش الإسرائيلي، حسب المصدر ذاته.
وفي سبتمبر/أيلول 2022 أفاد المحلل العسكري لصحيفة هآرتس العبرية عاموس هرئيل بأن وزارة الخارجية الأمريكية بدأت إجراء فحص لكتيبة نيتساح يهودا في أعقاب عدة حوادث تورط فيها جنود من الكتيبة في أعمال عنف ضد المدنيين الفلسطينيين.
ومن هذه الحوادث: الواقعة التي تُوفي فيها المُسِنّ عمر أسعد، وهو فلسطيني أمريكي (80 عاماً)، في يناير/كانون الثاني 2022.
واعتُقل الشيخ أسعد في قريته القريبة من رام الله وسط الضفة الغربية المحتلة عند نقطة تفتيش مفاجئة أقامها جنود من نيتساح يهودا، وكبّلوا يديه وكمموا فمه وتركوه على الأرض في منتصف الليل داخل مبنى قيد الإنشاء. وبعد ساعات قليلة عُثر عليه ميتاً.
وبعد التحقيق في الحادث، ذكر الجيش الإسرائيلي أنه وُجد "فشل أخلاقي للقوة وخطأ في التقدير، مع الإضرار البالغ بقيمة الكرامة الإنسانية".
وفي أعقاب الحادثة، جرى توبيخ قائد كتيبة نيتساح يهودا، وطُرد قائد السرية وقائد فصيلة الجنود على الفور. وأُغلق التحقيق الجنائي الذي فُتح ضد الجنود دون محاكمة، حسب والا.
في أغسطس/آب 2024 أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية أنها لا تنوي فرض عقوبات على كتيبة نيتساح يهودا التابعة للجيش الإسرائيلي، رغم تورطها في مقتل مواطن يحمل الجنسيتين الفلسطينية والأمريكية.
وذكرت الخارجية في بيانها أن إسرائيل، من وجهة نظر الإدارة الأمريكية، كانت قد اتخذت الإجراءات اللازمة في هذه القضية، الأمر الذي دفع واشنطن إلى العدول عن اتخاذ أي خطوات عقابية بحق الكتيبة العسكرية.
وجاء هذا القرار بعد أن كانت إدارة الرئيس جو بايدن قد درست بالفعل فرض عقوبات على الكتيبة، التي توصف بأنها واحدة من الوحدات الإسرائيلية الأكثر تطرفاً، في ظل سجلّها الطويل من الانتهاكات بحق الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة.