وقد شبَّه محاجنة بعض ممارساتها بما جرى في معتقل أبو غريب سيّئ الصيت خلال الغزو الأمريكي للعراق، لا سيما ما يتعلّق بحالات الاغتصاب والتعذيب المنهجي.
وأوضح أن إسرائيل، منذ اندلاع الحرب على غزة في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، أنشأت عدداً من السجون والمعسكرات السرّية، أبقت عليها طي الكتمان لأشهر.
وأشار إلى أن أحدث هذه المواقع هو معتقل راكيفت الواقع في سجن أيالون وسط البلاد، وهو منشأة تحت الأرض كانت قد أُنشئت عقب احتلال فلسطين عام 1948، ثم أُغلقت لاحقاً لعدم صلاحيتها للحياة، قبل أن يُعاد تفعيلها مع بداية العدوان الأخير على غزة.
وأكد أن راكيفت استُخدم بدايةً لاحتجاز مئات الفلسطينيين من قطاع غزة، ثم زُج فيه بمواطنين عرب بعد اندلاع الحرب على لبنان وسوريا.
وخلال أشهر من العزل التام، لم يُسمح للمحامين إلا بزيارات محدودة ونادرة، وفق محاجنة.
ونقل المحامي عن الأسرى شهادات مروّعة عن التعذيب وسوء المعاملة، إذ يُقيَّدون بالأصفاد ليلاً ونهاراً، ويُحرمون من أشعة الشمس والطعام الكافي وتبديل الملابس، فيما يخضعون لمراقبة مستمرة حتى داخل المراحيض.
وأضاف أن بعض الزنازين، التي بالكاد تَسَعُ ستة أشخاص، يضم ما يصل إلى 25 أسيراً، ينامون على الأرض دون أغطية، ويُمنعون من الحديث أو الحركة تحت طائلة العقاب.
وقال محاجنة إن سلطات الاحتلال، وبتوجيه من الحكومة الإسرائيلية، بدأت لاحقاً بالكشف المتعمّد عن هذا المعتقل من خلال وسائل الإعلام العبرية، في خطوة تعكس "تباهي إسرائيل بتعذيب الأسرى"، حسب تعبيره.
كما أشار إلى أن صوراً ومقاطع مصوّرة سُرّبت من داخل راكيفت، أظهرت تورّط وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، المعروف بمواقفه اليمينية المتطرفة، في الإشراف المباشر على عمليات التعذيب داخل السجن.
"مقاتلون غير شرعيين"
في مواصلة لتوثيق الانتهاكات الإسرائيلية بحق الأسرى، أوضح المحامي خالد محاجنة أن إسرائيل لجأت إلى تفعيل قانون "المقاتل غير الشرعي"، وهو قانون سنّته عام 2002 بالتزامن مع احتجازها لعدد من المواطنين اللبنانيين في معسكرات وسجون الجيش دون تهم أو محاكمات.
ووفق محاجنة، فقد جاء هذا القانون ردّاً على دعاوى رفعتها منظمات حقوقية لدى المحاكم الإسرائيلية، أكدت فيها أنه لا يجوز قانوناً احتجاز مواطن عربي من دولة أخرى دون توجيه تهم واضحة أو تحديد سقف زمني للاعتقال.
وعوضاً عن الامتثال لتلك الضغوط، سنَّت إسرائيل قانوناً يتيح لها احتجاز أي شخص من دولة عربية "بذريعة وجود شبهات أمنية سرّية"، دون الحاجة إلى تقديم أدلة أو عقد محاكمات.
وبيّن محاجنة أن هذا القانون ظلّ معطّلاً فعلياً لعقود، ولم يُفعّل بصرامة إلا بعد اندلاع حرب غزة في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، حيث استُخدم على نطاق واسع لاحتجاز أسرى من قطاع غزة، ولاحقاً من لبنان وسوريا.
وأضاف أن إسرائيل لا تزال تحتل أراضيَ فلسطينية وسورية ولبنانية وترفض الانسحاب منها، كما ترفض قيام دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
وفي ما يخص أوضاع الأسرى، أشار محاجنة إلى أن سلطات الاحتلال تحتجز اليوم ما يقارب 4,000 فلسطيني من الضفة الغربية، ونحو 60 من داخل أراضي 48، إلى جانب المئات من القدس، جميعهم رهن "الاعتقال الإداري" دون محاكمة أو تحديد مدة للإفراج.
وأكد أن وتيرة الاعتقالات تصاعدت بشكل غير مسبوق منذ بدء الحرب، إذ اعتُقل أكثر من 10 آلاف فلسطيني بطريقة عشوائية، معظمهم تحت بند الاعتقال الإداري.
كما تحتجز إسرائيل نحو 500 طفل، غالبيتهم دون تُهَم رسمية، وهو ما يشكّل خرقاً صارخاً للقانون الدولي الإنساني واتفاقية حقوق الطفل.
"تفويض بالتعذيب" من الحكومة
في شهادات دامغة تكشف عن حجم الانتهاكات الجسيمة التي يتعرض لها الأسرى الفلسطينيون، يؤكد المحامي خالد محاجنة، من هيئة شؤون الأسرى والمحررين الفلسطينية، أن ما يجري في السجون والمعسكرات الإسرائيلية بحق المعتقلين من قطاع غزة، خصوصاً منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، يتجاوز مفهوم التعذيب لغايات استخبارية، ليتحوّل إلى أداة انتقام ممنهج ذات طابع عنصري.
يقول محاجنة: "أصغر مجند أو سجّان إسرائيلي يمكنه أن يفعل ما يشاء بأسير من غزة، بضوء أخضر من الحكومة، ليس بهدف التحقيق أو انتزاع معلومات، بل فقط لأن الأسير من القطاع. ما يجري هو تعذيب وانتقام خالص".
ويشير إلى أن داخل مصلحة السجون الإسرائيلية مساراً خاصاً للتعامل مع أسرى غزة، يتضمن أنماطاً من الإذلال والاعتداء الجنسي، لا تُطبّق بحق أسرى الضفة الغربية أو القدس أو الداخل الفلسطيني.
وفي واحدة من أبشع الشهادات التي استمع إليها، يروي محاجنة حادثة تعرّض لها أسير ثلاثيني، صُنّف "مقاتلًا غير شرعي"، حيث جرَّدته سجّانة إسرائيلية من ملابسه، وشدّته من أعضائه التناسلية، واعتدت عليه "بأساليب حقيرة وسادية" وسط ضحكات السخرية، فيما كان مكبل اليدين وتحت أنظار أسرى آخرين لم يتمكنوا من نجدته.
ويقول محاجنة إنَّ الأسير ظلّ حيًا لبضعة أيام بعد هذه الجريمة، واصفاً الحادثة بأنها تُعيد إلى الأذهان الفظائع التي ارتُكبت في معتقل أبو غريب خلال الاحتلال الأمريكي للعراق.
ولم تسلم الحالات المَرضية من وحشية التعذيب، إذ تحدّث محاجنة عن أسير شاب مصاب بالسرطان معتقل في سجن النقب، تعرّض للإذلال بعد أن طلب ماءً صالحاً للشرب، فأجبره السجّان على شرب مياه المرحاض. ويضيف أن أحد الأسرى بُترت يده دون تخدير، بسبب تآكلها تحت القيود الحديدية، ما أدى لاحقاً إلى وفاة آخرين في ظروف مماثلة.
كما تحدّث عن طفل سوري من محافظة القنيطرة، اعتقلته القوات الإسرائيلية قبل عام حين كانت سِنُّه 15 عاماً، ولم تبلغ أهله أو أي جهة دولية عن اعتقاله. وبعد معارك قضائية طويلة، تبيّن أنه لا يزال حياً في أحد أقسام معسكر عوفر، ضمن قسم مخصّص لأسرى غزة، حيث يتعرض لنفس أنماط التعذيب.
أما معاناة النساء فيصفها محاجنة بأنها "الأشد إيلاماً". ويوضح أن مصلحة السجون تساوم الأسيرات على أبسط حقوقهن، بما فيها الحجاب والملابس وخصوصيات الجسد، مقابل التنازل عن كرامتهن، في ظل شهادات لأسيرات محرّرات من غزة أفدن بتعرضهن للتحرّش.
ويقول إنّ هذا الملف حساس للغاية، وإنّ كثيراً من الناجيات لا يستطعن التحدث علناً عن تفاصيله بسبب الألم النفسي والاجتماعي الهائل الذي يخلّفه.