بدا المشهد وكأنه استعراض ناري محسوب، بطيء الزحف لكنه موجّه بدقة عالية، لم يكن مفاجئاً أو مباغتاً، بل مُتوقع بدقّة غير معهودة.
لم يكن هذا التنبّه ثمرة تسريب استخباراتي أو تراخٍ إيراني في تنفيذ الضربة، بل نتيجة شبكة إقليمية واسعة من الرادارات ومنظومات الإنذار المبكر التي طوّرتها إسرائيل على مدى سنوات، لتُشكّل درعاً استباقياً يُبقي عيونها مفتوحة دوماً على السماء الشرقية.
كشفت هذه المواجهة، بشكل غير مسبوق، عن مركزية "الإنذار المبكر" في العقيدة الدفاعية الإسرائيلية، ليس بوصفه أداة مراقبة فقط، بل حلقة أولى حاسمة تسبق قرار الاعتراض، وتحدّد اللحظة الفاصلة بين التهديد والانفجار.
لكن هذه الحلقة لم تكن سوى بداية لمصفوفة دفاعية متعددة الطبقات، مرنة ومتشابكة، هدفها لا يقتصر على حماية المجال الجوي، بل يمتد إلى ضمان استمرارية الحياة المدنية وسط أمطار من الصواريخ والطائرات المسيّرة.
في هذا المقال، نرصد بنية المنظومة الدفاعية الإسرائيلية، من أنظمة الرصد والإنذار إلى وسائط الاعتراض، ونقيّم جاهزيتها وكفاءتها من خلال أبرز اختباراتها الميدانية، التي بدأت من جنوب لبنان وغزة، مروراً بعملية "طوفان الأقصى"، و"الوعد الصادق" الإيرانية، وصولاً إلى المواجهة المباشرة بين إيران وإسرائيل، التي كشفت عن قدرات هذه المنظومة... كما كشفت عن حدودها.
لمحة حول منظومة الإنذار المبكر والدفاع الجوي الإسرائيلي
تُعدّ منظومة الإنذار المبكر الإسرائيلية الركيزة المركزية في بنيتها الدفاعية الجوية، إذ تمنح سلاح الجو القدرة على رصد التهديدات قبل وصولها إلى الأجواء الإسرائيلية، وتوفر نافذة زمنية حاسمة للتشخيص والاعتراض.
تعتمد هذه المنظومة على شبكة من الرادارات المتقدمة، الإقليمية والمحلية، التي تُغطي المجال الجوي بطبقات متعددة، وتُدار ضمن نظام قيادة وتحكم مركزي عالي الكفاءة.
في قلب هذه الشبكة تقف رادارات "جرين باين" (Green Pine) من طراز EL/M-2080، وهي رادارات من نوع AESA بعيدة المدى، صُمّمت خصيصاً لرصد وتتبع الصواريخ الباليستية منذ لحظة إطلاقها، وتُشكّل جزءاً أساسياً من منظومة "حيتس" الدفاعية، ويمكنها اكتشاف أهداف تتجاوز مسافتها 500 كيلومتر.
على المستوى التكتيكي، تبرز رادارات منظومة "القبة الحديدية" من طراز EL/M-2084، المعروفة باسم "راز"، وهي رادارات متعددة المهام تُستخدم لرصد الصواريخ قصيرة المدى، وقذائف الهاون، والطائرات المسيّرة. بفضل سرعة معالجتها ودقتها العالية، تُعد هذه الرادارات مثالية للانتشار الميداني على خطوط التماس وفي المناطق الحيوية.
ولتغطية الفجوات الرادارية في الطبقات المنخفضة، إذ تنشط عادة الصواريخ الجوالة والطائرات المسيّرة الصغيرة، لجأت إسرائيل إلى حلول رصد جوية، أبرزها بالونات الإنذار الثابتة.
يُعد "بالون ديمونا" المنتشر فوق منشآت الجنوب، و"بالون ندى السماء" (Sky Dew) المحلق في أجواء الشمال، من أبرز هذه الوسائل.
زُوّدت هذه البالونات برادارات متطورة مشتقة من "جرين باين"، ما يتيح لها رصد الأهداف ذات البصمة الرادارية المنخفضة على ارتفاعات منخفضة جداً، في مهمة تُخفف العبء عن طائرات الإنذار المبكر من طراز "نحشون إيتام" (Gulfstream G550)، التي لا يمكنها التحليق المستمر بالكفاءة نفسها.
وتُشرف مديرية "حوما" (أي "الجدار")، التابعة لوزارة الدفاع الإسرائيلية، على تطوير هذه المنظومة المتشابكة، بالتعاون مع شركات صناعات عسكرية مثل "رفائيل"، و"إلتا"، و"الصناعات الجوية الإسرائيلية".
لا تقتصر مهام "حوما" على التصنيع، بل تشمل دمج الرادارات، وتنسيق طبقات الاعتراض، وتطوير أنظمة القيادة والسيطرة لتواكب التهديدات الناشئة والتحولات الميدانية المستمرة.
شبكة اعتراض متعددة الطبقات
لم تكن منظومة الإنذار المبكر لتؤدي دورها الحاسم لولا ارتكازها على شبكة اعتراض صاروخي متعددة الطبقات، يعود الأساس المفاهيمي لهذه الشبكة إلى صدمة حرب الخليج عام 1991، عندما سقطت صواريخ "سكود" العراقية في قلب تل أبيب.
هذه الضربة دفعت نحو إطلاق مشروع "حيتس" (Arrow) بالتعاون مع الولايات المتحدة، لتأسيس أول منظومة دفاعية ضد الصواريخ الباليستية بعيدة المدى.
منذ ذلك الحين، بنت إسرائيل عقيدتها الدفاعية على مبدأ "الدرع متعدد الطبقات"، إذ تتوزع مهام الاعتراض بين منظومات متخصصة تغطي طيفاً واسعاً من التهديدات، من المسيّرات وقذائف الهاون إلى الصواريخ الباليستية العابرة للغلاف الجوي.
تبدأ هذه الشبكة بمنظومة "الشعاع الحديدي" (Iron Beam)، التي تعتمد على سلاح ليزري عالي الطاقة لاعتراض المسيّرات وقذائف الهاون والصواريخ القصيرة جداً.
دخلت هذه المنظومة الخدمة التجريبية لأول مرة خلال المواجهات الأخيرة على جبهتي غزة ولبنان في 2024، تليها منظومة "القبة الحديدية" (Iron Dome)، الأكثر شهرة في اعتراض الصواريخ قصيرة المدى، والتي جرى تطويرها عقب حرب يوليو/تموز 2006.
في الطبقة المتوسطة، تعمل منظومة "مقلاع داوود" (David’s Sling) لاعتراض الصواريخ متوسطة المدى مثل صواريخ "زلزال" الإيرانية.
وفي المستوى ذاته، دخلت منظومة "باراك-MX" الخدمة الفعلية في يونيو/حزيران 2024 خلال الحرب مع إيران. وهي منظومة مرنة تعمل ضد الصواريخ والطائرات والطائرات المسيّرة، وتُستخدم لتعزيز التغطية الجوية فوق المواقع الحيوية.
تشكل منظومتَا "حيتس-2" و"حيتس-3" (Arrow-2/3) قمة الهرم الدفاعي. حيتس-2 مصممة لاعتراض الصواريخ الباليستية داخل الغلاف الجوي، أما حيتس-3 فمخصصة للتعامل مع التهديدات العابرة للغلاف، مثل صواريخ "شهاب" و"خُرمشهر"، إذ تعترضها على ارتفاعات شاهقة خارج الغلاف الجوي، ما يؤدي إلى توليد ظواهر بصرية يمكن رؤيتها في أجزاء واسعة من المنطقة.
ومع تصاعد التهديدات من العمق الإيراني، وخصوصاً قبيل تنفيذ عملية "الوعد الصادق 2"، نشرت الولايات المتحدة بشكل عاجل منظومة THAAD للدفاع الجوي في إسرائيل، لتوفير طبقة إضافية ضد الصواريخ الباليستية طويلة المدى.
وقد سبقت هذه الخطوة بنية رادارية متقدمة عبر نشر رادار AN/TPY-2 عالي القدرة في قاعدة "كيرين" (القرن) في النقب، ما وفّر لإسرائيل تغطية استشعار تمتد لآلاف الكيلومترات باتجاه الشرق.
وبعد نشر بطارية "ثاد"، باتت إسرائيل تمتلك اثنين من هذه الرادارات الأمريكية: أحدهما على جبل القرن، والآخر مدمج مع منظومة الاعتراض الأمريكية، ما يعزّز قدرة الرصد المبكر ويوسّع نطاق التغطية الزمانية والمكانية لأي هجوم قادم من العمق الإيراني.
الدرع غير المرئي الإقليمي
لا تقتصر البنية الدفاعية الجوية لإسرائيل على المنظومات المحلية أو تلك التي تشغّلها بنفسها، بل تمتد إلى شبكة إقليمية غير مُعلنة رسمياً، لكنها فعالة للغاية، تستند إلى شراكات أمنية يقودها الجيش الأمريكي مع عدد من الدول "الحليفة" في المنطقة.
في طليعة هذه الشبكة يأتي رادار AN/FPS-132، وهو من فئة الرادارات الثابتة بعيدة المدى المصممة لرصد إطلاقات الصواريخ الباليستية العابرة للقارات.
يتمركز هذا الرادار في مواقع استراتيجية بالمنطقة لم يُعلن رسمياً، يتمتع هذا الرادار بقدرة رصد تصل إلى أكثر من 5000 كيلومتر، ما يجعله أحد أعمدة الإنذار الاستراتيجي المبكر في الشرق الأوسط.
إلى جانب ذلك، تعتمد الشبكة على رادارات AN/TPY-2 المحمولة التابعة لمنظومة الدفاع الصاروخي الأمريكية "THAAD".
نُشرت هذه الرادارات في عدد من الدول الإقليمية، وتُعرف بدقتها العالية في تتبع الصواريخ الباليستية منذ لحظة الإطلاق وحتى دخولها الغلاف الجوي، ما يمنح منظومات مثل "حيتس-2" و"حيتس-3" الإسرائيلية وقتاً كافياً لتفعيل مسارات الاعتراض.
ورغم أن هذه الرادارات لا تخضع لإدارة مباشرة من إسرائيل، فإن قنوات التنسيق الدفاعي العميقة مع القيادة المركزية الأمريكية (CENTCOM) تتيح لها الوصول إلى بيانات آنية حول التهديدات البعيدة، ولا سيما تلك المنطلقة من العمق الإيراني، وهو ما ظهر جلياً خلال الحرب الأخيرة حين رُصدت الصواريخ الإيرانية لحظة انطلاقها، قبل وصولها إلى مسافة تسمح بتفعيل الدفاعات الإسرائيلية.
أداء الدفاع الجوي الإسرائيلي في مواجهة الصواريخ الإيرانية
رغم البنية المتقدمة التي راكمتها إسرائيل على مدى عقود في مجال الدفاع الجوي، فإن الهجوم الإيراني في يونيو/حزيران 2025 ضمن عملية "الوعد الصادق 3" كشف عن اختلالات غير مسبوقة في قدرة المنظومة على التعامل مع سيناريوهات التصعيد الشامل.
استمرت العملية الإيرانية 12 يوماً، وشملت إطلاق مئات الصواريخ الباليستية وقرابة 1000 طائرة مسيّرة انتحارية، أُطلقت على دفعات متقطعة مباشرة من الأراضي الإيرانية.
بخلاف عمليتَي "الوعد الصادق 1 و2" في عام 2024، اللتين استهدفتا مواقع عسكرية رمزية، اتسمت العملية الأخيرة بتغيير نوعي في نمط الأهداف، إذ وُجِّهت الضربات نحو تجمعات سكنية ومدنية في قلب إسرائيل، ما أربك أنظمة الدفاع، وأجبرها على المفاضلة بين حماية البنى التحتية والمواقع العسكرية.
سقطت بالفعل عدة صواريخ في تل أبيب، وروحوفوت، وبات يام، وحيفا، وأسفرت عن مقتل 30 شخصاً وإصابة الآلاف، فضلاً عن أضرار جسيمة في محطات كهرباء ومستشفيات ومرافق مدنية، وهو ما شكّل ضغطاً غير مسبوق على المنظومة الدفاعية.
للمرة الأولى، لجأت إسرائيل إلى تشغيل كامل طيف منظوماتها الدفاعية الجوية بصورة متزامنة، بدءاً من "حيتس-3" لاعتراض التهديدات خارج الغلاف الجوي، إلى "حيتس-2" و"مقلاع داوود"، وصولاً إلى "القبة الحديدية"، التي اضطرت في حالات نادرة إلى التعامل مع أهداف باليستية نتيجة تشويش أو تشبع دفاعي، وربما بسبب شح مؤقت في مخزون صواريخ الاعتراض البعيدة.
وتُظهر بيانات من مصادر مفتوحة أن المنظومات الإسرائيلية أطلقت خلال فترة القتال (13–23 يونيو/حزيران 2025) ما يلي: 34 صاروخاً من طراز حيتس-3 (Arrow-3)، و9 صواريخ حيتس-2 (Arrow-2)، بالإضافة إلى ٣٩ صاروخاً من منظومة "ثاد" الأمريكية (THAAD).
ويُعد هذا المعدل غير مسبوق مقارنة بالقدرات المعروفة. فمثلاً، بطارية THAAD الواحدة تحتوي على 48 صاروخاً فقط قبل إعادة التذخير، ما يعني أن المخزون كان على وشك النفاد، بحسب تحليل الباحث سام لير من مركز جيمس مارتن لدراسات منع الانتشار، الذي استند إلى تحليل مقاطع مصورة للهجمات ومنحنيات الاعتراض.
ومن النقاط اللافتة في المواجهة دخول منظومة "باراك-MX" لأول مرة إلى الخدمة البرية، بعدما كانت حصراً على الفرقاطات البحرية من طراز "ساعر 5 و6".
وقد استُخدمت في اعتراض عدد من الطائرات المسيّرة التي نجحت في اختراق الأجواء الإسرائيلية، ما يدل على مرونة تشغيلية جديدة في توزيع وسائل الاعتراض، لكنه يثير أيضاً تساؤلات حول مدى فاعلية الطبقات الحالية في التصدي للهجمات الكثيفة ذات الطابع الانتحاري.
كما أن بعض المسيّرات تمكن من الوصول إلى أهدافه بسبب تدني ارتفاع المسيرات وبصمتها الرادارية واخترقت بعض المناطق وأصابت أهدافاً في بيسان، ووصلت لأخرى ذات حساسية عالية، كان إحداها بطارية حيتس 2، إلا أن المقاتلات الجوية الإسرائيلية اعترضتها في اللحظات الأخيرة.
فوضى عملياتية
أحد أبرز مظاهر الإرباك العملياتي خلال المواجهة تمثّل في تداخل خطوط الاشتباك بين الطبقات الدفاعية المختلفة، فقد سجّلت حالات متكررة أطلقت فيها منظومة "القبة الحديدية" صواريخها لاعتراض أهداف باليستية كان يفترض أن تُترك لمنظومتَي "حيتس" و"مقلاع داوود"، ما أدى إلى استنزاف غير مبرر لمخزون الذخائر قصيرة المدى المخصصة لتهديدات مثل قذائف الهاون والطائرات المسيّرة.
وقد برّر مسؤولون إسرائيليون هذا السلوك بأنه محاولة لاعتراض شظايا الصواريخ الباليستية التي تنفجر في الطبقات العليا، لتجنّب سقوطها فوق مناطق مدنية، إلا أن هذا التبرير لم يُخفِ حجم الخلل في التنسيق بين طبقات الدفاع.
كما أظهرت مقاطع فيديو موثقة تعرّض بطاريات "حيتس" لأعطال ميدانية متكررة، إذ فشلت صواريخ الاعتراض في إصابة أهدافها، بل انحرفت أو سقطت عائدة نحو الأرض، متسببة أحياناً في أضرار جانبية أصابت أجزاء من البطاريات نفسها أو منشآت مجاورة.
ورغم التصريحات الرسمية الإسرائيلية التي تحدثت عن نسبة اعتراض بلغت 86% من مجمل الرشقات الباليستية، فإن الهجوم الإيراني الكثيف القائم على استراتيجية "الإغراق" كشف عن محدودية استجابة الدفاع الجوي، وخاصة مع تكرار الموجات الهجومية خلال أيام متتالية، ما أعاق إعادة التذخير والتنسيق في الوقت المناسب، وأفقد المنظومات القدرة على مواكبة كثافة الهجمات ضمن كل رشقة.
ورغم أن إيران قلّلت لاحقاً عدد الصواريخ في الرشقة الواحدة، فإن معدل الإصابات ظل مرتفعاً، ما يُشير إلى تبنّي الإيرانيين تكتيكات مرنة لتجاوز المنظومات الدفاعية، سواء من خلال التمويه، أو تعديل مسارات الطيران، أو تكرار الهجمات في أوقات يصعب التنبؤ بها.
الاستنزاف اللوجستي: معضلة المخزون الدفاعي
على مدار أيام القتال، تصاعدت المخاوف من نفاد مخزون صواريخ الاعتراض الإسرائيلي قبل استنفاد الترسانة الإيرانية. ورغم أن أنظمة الدفاع الإسرائيلية نجحت في اعتراض جزء كبير من الهجمات، فإن وتيرة الاستهلاك تجاوزت بوضوح قدرة خطوط الإنتاج على التعويض.
وأمام هذا الواقع، لجأ جيش الاحتلال الإسرائيلي إلى ترشيد استخدام الصواريخ الاعتراضية، وتخصيصها لحماية المواقع الحساسة فقط، مثل مفاعل ديمونا النووي، ومقرات القيادة في تل أبيب، ما أدى إلى خفض التغطية الجوية عن المناطق المدنية.
بحسب تحقيق نشرته صحيفة نيويورك تايمز، تواجه إسرائيل معضلة استراتيجية حرجة تتعلق بمخزونها من الذخائر الاعتراضية، إذ تُستهلك الصواريخ بوتيرة تفوق القدرة التصنيعية المحلية.
وفي تقرير إذاعة NPR الأمريكية، أشار محللون إلى أن هذا النجاح الدفاعي جاء بثمن لوجيستي باهظ، محذرين من أن استمرار هذه الوتيرة قد يؤدي إلى نفاد الترسانة الدفاعية خلال صراع طويل الأمد.
ويؤكد توم كاراكو، مدير مشروع الدفاع الصاروخي في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS)، في التقرير ذاته، أن الخطر الأكبر يكمن في لحظة نفاد صواريخ الاعتراض، معتبراً أن ذلك سيكون "يوماً سيئاً جداً" لإسرائيل.
أما المحلل العسكري جو تروزمان، من مجلة Long War Journal التابعة لمؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات، فقد لفت إلى أن هذا التحول في أولويات الدفاع يخدم الاستراتيجية الإيرانية، التي تهدف إلى إرباك الجبهة الداخلية الإسرائيلية وتعزيز الضغط الشعبي على الحكومة لإنهاء الحرب.
ما بعد الحرب: انهيار "وهْم الحصانة" وسيناريوهات ما هو قادم
كشفت صحيفة "التليغراف" البريطانية، عقب وقف إطلاق النار، أن الهجمات الإيرانية خلال عملية "الوعد الصادق 3" أصابت بشكل مباشر خمس قواعد عسكرية إسرائيلية، من بينها قاعدة جوية رئيسية، ومركز استخبارات، وقاعدة لوجيستية، وذلك استناداً إلى بيانات رادارية التقطتها أقمار صناعية تجارية. لم تُعلن هذه الإصابات في الداخل الإسرائيلي بسبب الرقابة العسكرية الصارمة، ما يعكس فجوة بين الخطاب الرسمي والحصيلة الميدانية الفعلية.
هذا الواقع، بحسب محللين عسكريين، يتماشى تماماً مع الهدف الإيراني المعلن: إنهاك الداخل الإسرائيلي من خلال تآكل الحماية المدنية وإثارة الشكوك حول جدوى التفوق الدفاعي النوعي الذي لطالما اعتبرته إسرائيل ركيزة عقيدتها الأمنية.
في المحصلة، وبينما سجّلت إسرائيل نجاحات اعتراضية على المستوى التكتيكي، فإن الحرب الأخيرة فتحت الباب أمام معركة استراتيجية أعمق: معركة الثقة بالتفوق النوعي. إذ باتت الجبهة الداخلية، وللمرة الأولى منذ حرب الخليج، تطرح تساؤلات جدية حول مدى صمود منظومة "الدرع" أمام هجمات معقدة وطويلة النفس.
ويظل السؤال مفتوحاً: كيف ستتعامل إسرائيل مع سيناريوهات "الإغراق الصاروخي" المتكرر؟ وهل ستتمكن من سدّ فجوة الإنتاج والتوريد في الذخائر الدفاعية قبل الجولة المقبلة؟ أم إن القدرة على الردع بدأت تُستنزف من الداخل؟.