وفي هذا السياق، عقد الرئيس السوري أحمد الشرع ورئيس الوزراء اللبناني نواف سلام، أمس الاثنين في دمشق، اجتماعاً ناقشا خلاله سبل ترسيم الحدود البرية والبحرية بين البلدين، إلى جانب تعزيز التنسيق الأمني.
ويأتي هذا اللقاء بعد اتفاق سابق أنهى سلسلة من الاشتباكات الحدودية التي شهدتها المناطق الشمالية الشرقية للبنان في الأشهر الأخيرة.
وأوضح سلام، في بيان صادر عن مكتبه الإعلامي، أن الزيارة تهدف إلى "فتح صفحة جديدة في العلاقات الثنائية، تقوم على مبادئ الاحترام المتبادل، واستعادة الثقة، وترسيخ حسن الجوار".
وكانت المنطقة الحدودية قد شهدت في مارس/آذار الماضي مواجهات عنيفة، إثر تبادل لإطلاق النار بين وحدات من الجيش السوري ومسلحين محليين، إضافة إلى وقوع اشتباكات مع الجيش اللبناني.
ووجهت دمشق اتهامات مباشرة إلى "حزب الله" بالتوغل داخل الأراضي السورية، واختطاف ثلاثة جنود سوريين وقتلهم، بينما نفت الجماعة هذه الاتهامات. ونقلت مصادر أمنية لبنانية أن الجنود السوريين عبروا الحدود أولاً، وقُتلوا على يد مسلحين من إحدى العشائر خشية تعرض بلدتهم لهجوم.
وعلى خلفية هذه الأحداث، أعلنت وكالة الأنباء السعودية "واس" في 28 مارس/آذار عن توقيع اتفاق أمني بين وزيري الدفاع في البلدين خلال اجتماع في جدة، تمهيداً لتشكيل لجان قانونية وفنية مشتركة تعنى بمعالجة الخلافات الحدودية، في خطوة تُعد تمهيدية لترسيم شامل.
وتأتي هذه التطورات بعد زيارة غير مسبوقة لرئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط إلى العاصمة السورية، في أول لقاء له مع القيادة الجديدة منذ أكثر من 13 عاماً، وسلم جنبلاط الرئيس الشرع مذكرة تتضمن رؤيته للعلاقة المستقبلية بين البلدين.
وتبع هذه الزيارة لقاء أجراه رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي مع الشرع، بعد انتخاب جوزيف عون رئيساً للجمهورية في يناير/كانون الثاني 2025، إذ عبّر عون في خطاب القسم عن وجود "فرصة تاريخية لحوار جاد ومتوازن مع سوريا".
وفي مؤتمر صحفي مشترك، أكد ميقاتي أن "ملف ترسيم الحدود وضبط عمليات التهريب يشكل أولوية وطنية"، في حين شدد الرئيس السوري على أهمية بناء علاقات متوازنة تقوم على احترام السيادة والاستقلال المتبادل.
حدود غير مرسمة منذ قرن
تبلغ المسافة التي تمتد عليها الحدود اللبنانية-السورية نحو 375 كيلومتراً، إلا أنها لم تُرسم رسمياً منذ استقلال البلدين، ويعزى ذلك إلى تعقيدات ديموغرافية وجغرافية.
و تنتشر تجمعات سكانية لبنانية وسورية متداخلة على جانبي الحدود، ويرجع أصل هذا الإشكال إلى مرحلة الانتداب الفرنسي، حين حددت فرنسا حدود "دولة لبنان الكبيرة" عام 1920 من دون اتفاق نهائي مع دمشق.
وتُعد منطقة مزارع شبعا من أبرز النقاط الخلافية، إذ تحتفظ إسرائيل بالسيطرة عليها، وتعتبرها أراضي سورية، بينما تؤكد بيروت أنها جزء من الأراضي اللبنانية. كما تسجّل خلافات على مناطق أخرى مثل القموعة، العديسة، وبعلبك الهرمل، بسبب غياب ترسيم دقيق للحدود.
أما فيما يخص الحدود البحرية، فما تزال غير مرسّمة أيضاً، ما أدى إلى تباينات بشأن مناطق التنقيب عن النفط والغاز في شرق المتوسط. ويؤكد خبراء أن الترسيم يجب أن يستند إلى مبدأ "خط الوسط" طبقاً لأحكام القانون الدولي.
محطات سابقة وتعثر طويل
طالب قرار مجلس الأمن رقم 1680 الصادر عام 2006 الحكومة السورية بالتجاوب مع طلب لبنان بترسيم الحدود وتبادل العلاقات الدبلوماسية، بينما شدد القرار 1701، الذي تبنّاه المجلس عقب حرب تموز من العام نفسه، على ضرورة بسط سلطة الدولة اللبنانية على كامل أراضيها من دون استثناء.
وشهد عام 2008 أول محاولة رسمية لترسيم الحدود عبر لجنة مشتركة لبنانية-سورية، إلا أن التوترات السياسية بين البلدين آنذاك حالت دون تحقيق أي تقدم ملموس.
ومع اندلاع الثورة السورية في عام 2011، توقفت تلك الجهود كلياً، رغم وجود اتصالات غير معلنة بين الجانبين في مراحل لاحقة.
اليوم، يرى عدد من المراقبين اللبنانيين أن عودة النقاش حول الترسيم تُشكّل فرصة لا ينبغي تفويتها، وخصوصاً مع وجود قيادة سياسية جديدة في دمشق، وانفتاح متزايد من بعض الدول العربية والغربية على النظام الجديد.
وفي هذا السياق، ترى لوري هايتايان، خبيرة شؤون النفط والغاز في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، أن العلاقة مع سوريا يجب أن تكون من أولويات الحكومة اللبنانية في المرحلة المقبلة.
وتضيف: "التغيرات الإقليمية، إلى جانب وصول قيادة جديدة إلى سدة الحكم في سوريا، تفرض على بيروت إعادة النظر في مقاربتها تجاه دمشق".
وتؤكد هايتايان أن "الاتفاقيات الموقعة في عهد حافظ الأسد تحتاج إلى مراجعة جذرية وتحديث يتلاءم مع الوقائع السياسية والاقتصادية الجديدة". وترى أن نجاح لبنان في هذا الملف مرتبط بإعادة بناء الثقة مع القيادة السورية من خلال مسار دبلوماسي فعّال.
وتلفت هايتايان إلى أن التأخير في ترسيم الحدود البحرية قد يُفقد لبنان فرصاً استثمارية في قطاع الطاقة، وخصوصاً في ظل اهتمام سوريا المتزايد بالتنقيب في مياه المتوسط.
وفي ضوء هذه المؤشرات، يبدو أن ملف ترسيم الحدود بات أكثر من مجرد قضية سيادية، بل ورقة محورية في إعادة تشكيل العلاقات اللبنانية-السورية، وفي رسم خريطة التوازنات الإقليمية المقبلة.