وفي تلك الليلة أحبط الشعب التركي محاولة الانقلاب وأثبت أن الديمقراطية هي أساس الحكم، إذ واجهت تركيا واحدة من أكثر اللحظات أهمية في تاريخها الحديث، بعدما شن تنظيم مارق داخل القوات المسلحة التركية، تابع لتنظيم "غولن" الإرهابي، انقلاباً يهدف إلى الإطاحة بالحكومة.
وعلى إثر ذلك، اندفعت الدبابات إلى الشوارع، وحلقت الطائرات المقاتلة فوق العاصمة أنقرة، وجرى الاستيلاء على البنى التحتية الرئيسية، إذ إن ما حدث في تلك الليلة لم يكن سقوط حكومة، بل دفاعاً رائعاً عن الديمقراطية من شأنه أن يعيد تشكيل المشهد السياسي والنسيج الاجتماعي والوعي الجماعي في البلاد بشكل أساسي.
الدفاع عن الديمقراطية
كانت محاولة الانقلاب هجوماً مباشراً على المؤسسات الديمقراطية في تركيا. وكان هدف المتآمرين الاستيلاء على الحكومة وفرض الحكم العسكري، وتقويض إرادة الشعب، التي تتجلى من خلال الانتخابات الديمقراطية.
ولكن رد الشعب التركي كان سريعاً وحازماً بشكل غير مسبوق. ومع انتشار أنباء محاولة الانقلاب، تدفق آلاف من المواطنين إلى الشوارع، متحدّين أوامر حظر التجوال ومخاطرين بحياتهم لمواجهة عناصر من القوات المسلحة المتآمرة مع التنظيم.
واجتمع الناس صغاراً وكباراً، أغنياء وفقراء، حضريين وريفيين في تصميمهم على حماية الديمقراطية، وكان هذا العمل الجماعي بمثابة شهادة عميقة على التزام الشعب التركي المبادئ الديمقراطية والحكم المدني وأظهرت قوة الشعب الموحد في الدفاع عن القيم الأساسية للأمة.
وجمعت أحداث 15 يوليو/تموز أشخاصاً من خلفيات وانتماءات سياسية وطبقات اجتماعية مختلفة لاتخاذ موقف موحد ضد إسقاط الديمقراطية التركية، إذ تجاوز تضامن الشعب التركي الانقسامات السياسية والاجتماعية المعتادة. فيما وقفت الأحزاب السياسية، التي غالباً ما تكون على خلاف مع بعضها البعض، معاً في إدانة محاولة الانقلاب.
تسلل تنظيم "غولن" الإرهابي
سلطت محاولة الانقلاب الفاشلة الضوء على مدى تسلل تنظيم "غولن" الإرهابي إلى مؤسسات الدولة المختلفة، بما في ذلك الجيش والقضاء والشرطة، وكان هذا الكشف صادماً ومؤثراً في الوقت نفسه. فقد أكد الطبيعة عميقة الجذور والخبيثة للتهديد الذي يشكله التنظيم داخل أجهزة الدولة.
ورداً على ذلك، أطلقت الحكومة التركية حملة تطهير قانونية وشاملة ومنهجية لأعضاء التنظيم الإرهابي من جميع مستويات الدولة، وجرى اعتقال أو فصل أو تعليق عشرات الآلاف من العسكريين والقضاة والمدعين العامين وضباط الشرطة والموظفين المدنيين.
وكان الهدف من هذه الحملة الضخمة تفكيك شبكة التنظيم الإرهابية السرية ومنع التهديدات المستقبلية للأمن القومي. كما تضمنت العملية إصلاحات شاملة لزيادة الرقابة والمساءلة للمؤسسات الحكومية، وضمان عدم تكرار مثل هذا الحدث مرة أخرى.
وأعيد تنظيم الجيش لزيادة الضوابط والتوازنات المدنية والحد من خطر الانقلابات في المستقبل. وشمل هذا تغييرات في هيكل القيادة وإنشاء آليات لضمان قدر أعظم من الشفافية والمساءلة.
كما شهدت السلطة القضائية إصلاحات تهدف إلى تعزيز استقلالها وفعاليتها. وقد جرى تنفيذ تدابير لضمان تعيين القضاة والمدعين العامين على أساس الجدارة وليس الولاء لأي مجموعة أو أيديولوجية معينة، وكانت هذه الإصلاحات جزءاً من جهد أوسع لإعادة بناء الثقة في مؤسسات الدولة واستعادة الثقة في سيادة القانون.
التحول في السياسة الخارجية
لقد أثرت محاولة الانقلاب على السياسة الخارجية لتركيا، مما دفعها إلى إعادة تقييم تحالفاتها وشراكاتها، إذ سعت الحكومة إلى مزيد من التعاون مع حلفائها في مكافحة الإرهاب والنشاط التخريبي، وقد وُجد تحول ملحوظ نحو موقف أكثر حزماً واستقلالية في السياسة الخارجية، كما شهدت هذه الفترة تأكيد تركيا حضورها بقوة أكبر على الساحة الدولية.
وجرى اختبار علاقات تركيا مع العديد من البلدان في أثناء سعيها إلى تأمين الدعم لحملتها على تنظيم غولن الإرهابي، وامتد تصميم الحكومة على ملاحقة المسؤولين عن محاولة الانقلاب إلى ما هو أبعد من حدودها، مما أدى إلى جهود دبلوماسية لتعقب وتسليم أعضاء التنظيم الإرهابي الذين يعيشون في الخارج.
الوحدة الوطنية
ومنذ ذلك الحين، يجري الاحتفال بيوم 15 يوليو/تموز سنوياً باعتباره يوم "الديمقراطية والوحدة الوطنية" في تركيا، ويعتبر إحياء ذكرى هذا اليوم بمثابة تذكير قوي بمرونة الديمقراطية التركية والتضحيات التي قدمها أولئك الذين دافعوا عنها، وأصبح رمزاً للفخر الوطني ونقطة تجمع للجهود الجارية لتعزيز المؤسسات الديمقراطية والوحدة الوطنية.
وتتضمن الاحتفالات السنوية مراسم وخطباً وفاعليات مختلفة تسلط الضوء على البطولة والوطنية التي أظهرتها تلك الليلة، وتساعد في الحفاظ على ذكرى محاولة الانقلاب حية لضمان استمرار الدروس المستفادة منها في التأثير على المجتمع التركي، فضلاً عن كونها بمثابة تذكير بأهمية الوحدة في مواجهة التهديدات الداخلية والخارجية.