في 18 أكتوبر/تشرين الأول 2024، نشر حساب Middle East Spectator عبر منصة "تيلغرام" وثيقة مسرّبة من وكالة الأمن القومي الأمريكية (NSA)، تتضمن معلومات استخباراتية دقيقة، مصدرها صور التقطتها الأقمار الصناعية التابعة للوكالة الوطنية للاستخبارات الجغرافية-الفضائية (NGA)، حول تدريبات جوية مكثفة أجرتها القوات الجوية التابعة للاحتلال الإسرائيلي في قاعدتي رامات ديفيد، ورامون، تحضيراً لهجوم محتمل على إيران.
وبحسب الوثيقة، استخدم الاحتلال الإسرائيلي خلال تلك التدريبات منظومات تسليحية متقدمة، شملت صواريخ باليستية تُطلق من الجو من طرازي "روكس" و"غولدن هورايزن"، إلى جانب الطائرة المسيرة الشبحية RA-01، التي يُكشف عنها رسمياً للمرة الأولى، بعد أن ظهرت صور غير واضحة للطائرة سابقاً في سماء غزة، دون تأكيد رسمي لوجودها.
ويُعدّ هذا الكشف مفصلياً في العلاقات الأمنية بين الولايات المتحدة وإسرائيل، إذ تشير الوثيقة إلى تحوّل نوعي في قدرات تل أبيب الهجومية.
فرغم امتلاكها تاريخًا طويلاً في تطوير الطائرات بدون طيار، مثل "هيرون" و"هيرمس"، فإن هذه الطائرات تعاني من مقاطع رادارية كبيرة، ما يجعلها عرضة للإسقاط.
أما RA-01، فتمتاز بقدرات شبحية، وتحلّق على ارتفاعات شاهقة لساعات طويلة داخل الأجواء المعادية، موفرةً معلومات استخباراتية دقيقة لهيئة العمليات. ويفسر هذا الظهور جزئياً الدقة اللافتة في الضربات الإسرائيلية المتكررة داخل سوريا ولبنان خلال العامين الأخيرين.
وتُظهر الوثيقة أيضاً أن الاحتلال الإسرائيلي شحن، بين 8 و15 أكتوبر، 40 صاروخ "روكس" و16 صاروخ "غولدن هورايزن" إلى القاعدتين الجويتين، حيث خُزّنت داخل دشم مخصصة لمقاتلات F-15I Ra'am.
وبخلاف صاروخ "روكس"، الذي سبق ونشرت إسرائيل صوراً له ويُعتقد أن مداه لا يتجاوز 300 كيلومتر (مع احتمال امتداد المدى قليلاً في النسخة الخاصة بسلاح الجو الإسرائيلي)، فإن صاروخ "غولدن هورايزن" لا تزال مواصفاته طي الكتمان، ولم تُنشر أي صورة رسمية له.
غير أن الوثيقة تشير إلى أنه نسخة جوية من صاروخ "سيلفر سبارو"، الذي يُعد بدوره محاكاة لصاروخ "شهاب-3" الإيراني متوسط المدى، ما يرجّح أن "غولدن هورايزن" قادر على الوصول إلى مسافة 1500 كيلومتر، ويحمل رأسًا حربية خارقة للتحصينات.
وبحسب المعلومات، فإن الهدف الرئيس من تطوير هذه المنظومات هو تنفيذ ضربات دقيقة ضد المنشآت النووية الإيرانية، لاسيما في موقعي نطنز وفوردو.
إلى جانب صاروخي "روكس" و"غولدن هورايزن"، استخدم الاحتلال الإسرائيلي صاروخاً باليستياً ثالثاً يُطلق جوّاً من طراز "رامبيج"، وهو أصغر حجمًا، ويبلغ مداه نحو 250 كيلومترًا، مزوداً برأس حربي يزن أقل من 200 كيلوجرام.
كما استعانت القوات الجوية الإسرائيلية بصواريخ كروز شبحية حديثة، أبرزها "آيس بريكر"، الذي يصل مداه إلى 300 كيلومتر ويحمل رأساً حربيّاً بزنة 113 كيلوغراماً، ويُطلق من المقاتلات الحربية، إضافة إلى صاروخ "ويند ديمون"، صغير الحجم، لكنه قادر على بلوغ مدى يقارب 200 كيلومتر، ويتميز بإمكانية إطلاقه من الطائرات المسيرة مثل "إيتان" و"هيرمس-900".
ورغم غياب رواية رسمية مفصلة من أي من الطرفين، يمكن بناء تصور عام للهجوم الإسرائيلي استناداً إلى ثلاثة مصادر رئيسية: ما هو معروف عن منظومات التسليح لدى جيش الاحتلال الإسرائيلي، والوثيقة المسرّبة الصادرة عن وكالة الأمن القومي الأمريكية، بالإضافة إلى صور بقايا الأسلحة الهجومية في مسرح العمليات.
مراحل العملية
يمكن تقسيم الهجوم والعدوان الإسرائيلي إلى مرحلتين رئيسيتين:
أولًا: ضربة محاولة "قطع الرأس" (Decapitation Strike)
حاولت هذه المرحلة من العملية شلّ البنية القيادية والإدارية للنظام الإيراني، من خلال ضرب مراكز القرار والسيطرة. بدأت الهجمات عبر وحدات خاصة تابعة للموساد، مدعومة بشبكة من العملاء المحليين، نفّذوا سلسلة من الاغتيالات بحق قيادات الصف الأول في الحرس الثوري الإيراني والجيش، إلى جانب عدد من أبرز العلماء النوويين.
وبحسب التسريبات، كان الموساد قد بدأ التحضير للعملية قبل أشهر بصمت تام، حيث جنّد مئات العملاء داخل إيران، أوكلت إليهم مهام إنشاء ورش ومصانع سرية لتجميع الطائرات الانتحارية من طراز هيرو-90، إضافة إلى تخزين كميات كبيرة من صواريخ سبايك المخصصة لاختراق التحصينات، والتي استُخدمت في اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية، في عملية لم تتمكن أجهزة الأمن الإيرانية من كشف بنيتها المعقّدة أو تعطيلها.
بالتوازي مع ذلك، حلّقت طائرات استطلاع إسرائيلية من دون طيار داخل الأجواء الإيرانية، بهدف رصد مواقع الرادارات ومنظومات الدفاع الجوي بعيدة المدى. وعلى إثر هذه المعلومات الاستخباراتية، نُفّذت ضربات دقيقة بطائرات مسيّرة انتحارية على امتداد المحور الممتد بين تبريز وكرمنشاه، الأمر الذي أتاح للاحتلال الإسرائيلي فتح ممرّ جوي نحو العمق الإيراني، ممهّداً الطريق للمرحلة التالية من العملية الجوية واسعة النطاق.
ثانيًا: الهجوم الجوي واسع النطاق
أعقبت مرحلة التمهيد الاستخباراتي والمسيّرات، انطلاقة جوية كبرى تمثلت في إقلاع نحو 200 مقاتلة إسرائيلية مزوّدة بصواريخ بعيدة المدى، لتنفيذ هجوم منسق على أهداف استراتيجية داخل إيران.
في طليعة هذه الضربات، غارة جوية دقيقة على مقرّ تحت الأرض كان يحتضن اجتماعاً لكبار قادة القوة الجو-فضائية التابعة للحرس الثوري الإيراني، وأسفرت عن مقتل عدد كبير من القادة، من بينهم عناصر قيادية من الصف الثاني.
وفي تحرك متزامن، استهدفت المقاتلات الإسرائيلية محطات الرادار الرئيسية في محيط منشأة نطنز النووية، إلى جانب تدمير منظومات الدفاع الجوي بعيدة المدى المخصصة لحمايتها، بما مهّد الطريق لاختراق الطائرات المهاجمة عمق الأجواء الإيرانية دون مواجهة مقاومة فعّالة.
كما جرى استهداف قواعد إطلاق المسيّرات والصواريخ الباليستية في غرب إيران، تحديداً في تبريز، كرمنشاه، قصر شيرين، خرم آباد، وبدنكاه، بهدف تقليص قدرة إيران على الرد السريع أو شنّ هجمات مضادة.
وبعد ذلك، تحوّل مسار الضربة باتجاه وسط إيران، وخاصة العاصمة طهران، التي تضم منشآت نووية كبرى مثل نطنز وفوردو، إلى جانب مصانع الصواريخ في بارشين.
ويُرجّح أن الضربات على منشأة نطنز نُفذت باستخدام صاروخَي "غولدن هورايزن" و"روكس"، نظراً لما يتمتعان به من رؤوس حربية خارقة للتحصينات وسرعة اختراق عالية، تجعل منهما خياراً مثالياً لتدمير البنى التحتية المدفونة تحت الأرض.
بالتزامن مع استهداف المواقع النووية، شنت إسرائيل ضربات مركزة على القواعد الجوية الإيرانية في شيراز، تبريز، وهمدان، بهدف تحييد مقاتلات "سو-24" و"ميغ-29" وإخراجها من الخدمة في المراحل المبكرة من العملية.
وبحسب بيانات رسمية صادرة عن سلاح الجو الإسرائيلي، فقد شاركت 200 مقاتلة في اليوم الأول وحده، أطلقت خلالها 330 صاروخاً على 100 هدف عسكري واستراتيجي، شملت منشآت تابعة للحرس الثوري، وقواعد عسكرية للجيش الإيراني، بالإضافة إلى مواقع نووية.
واستمرت الحملة الجوية الإسرائيلية لمدة 12 يوماً متتالية، مع توسيع نطاق الأهداف تدريجياً ليشمل مؤسسات أمنية ومدنية، مثل مقار الشرطة، المحاكم، محطات الصرف الصحي، وسجن إيفين، إلى جانب مواقع يُشتبه باستخدامها كمنصات لإطلاق الصواريخ الباليستية.
تلك العملية، غير المسبوقة في كثافتها واتساع نطاقها، شكّلت تحولاً استراتيجياً في قواعد الاشتباك بين الاحتلال الإسرائيلي وإيران.
هل حقق الاحتلال الإسرائيلي السيادة الجوية؟
رغم النجاح الميداني في الأيام الأولى، فإن السؤال حول ما إذا كانت إسرائيل قد حققت "السيادة الجوية" في سماء إيران يبقى محل جدل.
فرغم حجم العملية، لم تُسجّل أي صورة لمقاتلة إسرائيلية تحلّق فوق الأراضي الإيرانية، رغم أن البلاد تعجّ بملايين الهواتف الذكية المزودة بكاميرات.
وقد ظهرت صور متعددة لمسيرات إسرائيلية فوق شمال إيران، لكن غياب أي دليل بصري على تحليق المقاتلات يثير علامات استفهام.
ومع أن إيران أعلنت مراراً عن إسقاط طائرات إسرائيلية، ونشرت وكالة "تسنيم" الرسمية أن ثلاث طائرات F-35 أُسقطت وأن الطيارين قيد التحقيق، فإن أي صور للحطام أو الطيارين لم تُعرض بعد مرور أكثر من شهر على انتهاء العمليات.
حتى الفيديو الذي بثّته طهران ويُظهر طائرة "كرار" بدون طيار تسقط هدفاً بصاروخ "مجيد"، يُظهر بوضوح لمن يملك خلفية تقنية أنه استهدف مسيّرة بطيئة، على الأرجح إسرائيلية، لا مقاتلة شبحية متطورة.
ويرى محللون عسكريون أن غالبية المقاتلات الإسرائيلية لم تدخل العمق الإيراني، بل أطلقت ذخائرها من مناطق بعيدة باستخدام صواريخ بعيدة المدى مثل "غولدن هورايزن".
ويُحتمل حصول بعض الاختراقات المحدودة، لكنها لا ترقى لتحقيق سيادة جوية كاملة، خاصة وأن إيران واصلت إطلاق صواريخ باليستية من أراضيها واستهدفت العمق الإسرائيلي وحققت إصابات كبيرة، وهي عملية معقدة تستغرق وقتاً، لاعتماد تلك الصواريخ على الوقود السائل.
تقييم الأثر على البرنامجين النووي والصاروخي
رغم الغموض الذي لا يزال يحيط بالأثر المباشر للضربات الإسرائيلية على البرنامج النووي الإيراني، إلا أن المؤشرات تشير إلى أن البرنامج الصاروخي قد تعرّض لضربة، وإن كانت محدودة من حيث الأثر الاستراتيجي طويل الأمد.
ووفق تقديرات إسرائيلية، فقد تم تدمير نحو 30% من منصات الإطلاق العمودية المتحركة (TEL)، فيما يُقدّر أن إيران فقدت ما يصل إلى 50% من صواريخها الباليستية متوسطة المدى، سواء نتيجة الضربات المباشرة أو نتيجة استخدامها في الهجمات المضادة ضد إسرائيل خلال العمليات الأخيرة.
تحديدًا، تدّعي إسرائيل أنها دمرت نحو 120 منصة إطلاق، إلا أن مراجعة دقيقة للمواد البصرية التي نشرتها وزارة الدفاع الإسرائيلية تكشف عن تضارب في البيانات:
تم نشر 45 مقطع فيديو يوثق استهداف منصات، لكن 12 منها مكررة من زوايا مختلفة.
كما تبيّن أن 9 من المنصات المستهدفة كانت منصات خداعية خشبية، ما يعكس استخداماً منهجياً لحيل التمويه من قبل إيران، وهي استراتيجية استخدمتها طهران أيضًاً في قواعدها الجوية، من خلال نشر نماذج وهمية لمقاتلات F-14 وF-5.
بناءً على ذلك، يشكك بعض الخبراء في دقة الأرقام الإسرائيلية بشأن الخسائر في منصات TEL، ويعتبرون أن التقديرات قد تتضمن مبالغة لأغراض دعائية أو ردعية.
أما مخزون الصواريخ، فتشير تقديرات أمنية إلى أن إيران كانت تملك ما بين 2000 و3000 صاروخ باليستي متوسط المدى، مع قدرة إنتاجية تتراوح بين 30 و50 صاروخًا شهريًا. وخلال عام واحد فقط، وخلال ثلاث عمليات كبرى أطلقت عليها طهران اسم "الوعد الصادق"، بلغ عدد الصواريخ التي أطلقتها:
1- 120 صاروخًا في أبريل/نيسان.
2- 200 صاروخ في أكتوبر/تشرين الأول.
3- 630 صاروخًا في يونيو/حزيران.
أي ما مجموعه نحو 950 صاروخًا، يُضاف إليها ما تم تدميره على الأرض. وهو ما يجعل تقدير فقدان نحو 50% من الترسانة الصاروخية المتوسطة المدى رقماً قريباً من الواقع، وإن كان العدد الفعلي قد يكون أقل قليلًا، بحسب مصادر محايدة.
وفي ما يتعلق بالقدرة التصنيعية، أشارت تقارير صادرة عن مراكز أبحاث أمنية إسرائيلية إلى أن الضربات التي استهدفت مصانع إنتاج الصواريخ في بارشين وقم قد تؤدي إلى إبطاء مؤقت في وتيرة التصنيع، لكن لأشهر معدودة فقط.
بعبارة أخرى، لن تتأثر القدرة الهيكلية لإيران على إنتاج الصواريخ بشكل طويل الأمد، ما لم تترافق الضربات الجوية مع عمليات استخباراتية متواصلة وتخريب ممنهج داخل المنشآت الصناعية، وهو ما يمثل التحدي الأكبر للمؤسسة الأمنية لدى الاحتلال الإسرائيلي في المرحلة المقبلة.