في الشهر الماضي، احتضنت أنطاليا النسخة الرابعة من المنتدى الدبلوماسي، الذي بات تقليداً سياسياً مهماً، استقطب مئات الدبلوماسيين والخبراء والأكاديميين من مختلف أنحاء العالم، وشكّل منصة نشطة للنقاش حول قضايا استراتيجية حساسة، ومجالاً للقاءات رفيعة المستوى جمعت المسؤولين الأتراك مع قادة دول وممثلين عن منظمات دولية.
وفي الأسبوع الماضي، برز دور أنقرة في ملفين شديدي التعقيد: التوتر القائم بين باكستان والهند، ومحادثات وقف إطلاق النار في غزة. في السياق نفسه، فتحت تركيا أحد أكثر الملفات حساسية في جوارها المباشر، وهو ملف نزع سلاح تنظيم "PKK" الإرهابي.
وشهدت العاصمة أنقرة محادثات مهمة مع رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، تناولت هذا الملف إلى جانب تعزيز التعاون الاقتصادي، خصوصاً في إطار مشروع "طريق التنمية". وبالتوازي، جرى تعزيز مستوى التنسيق مع الحكومة السورية الجديدة، وهو ما يساهم في استقرار هذه البلدان والحد من المنظمات الإرهابية.
ولا يمكن إغفال الحدث اللافت الذي تمثّل في إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترمب رفع العقوبات المفروضة على سوريا، خلال لقاء عُقد بضيافة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان ومشاركة الرئيس السوري أحمد الشرع، وشارك فيه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عبر الاتصال المرئي.
هذا الإعلان لم يكن ليرى النور دون تنسيق دبلوماسي مُسبق، وهو ما عبّر عنه كلٌّ من ترمب والرئيس السوري أحمد الشرع بشكر واضح لتركيا على دعمها في هذه العملية.
وبهذا التحول، تدخل سوريا عملياً مرحلة الاعتراف الدولي، ما يمهّد لانفتاح أوسع على إعادة الإعمار وجلب الاستثمارات، وسط توقّعات بأن تحذو الدول الأوروبية حذو واشنطن في فكّ العزلة السياسية والاقتصادية.
وتعود الحرب الأوكرانية-الروسية إلى واجهة المشهد الدولي مجدداً، وهذه المرة من بوابة إسطنبول، إذ أطلقت تركيا جولة وساطة جديدة أعادت الطرفين إلى طاولة التفاوض بعد انقطاع طويل دام سنوات. انعقاد المحادثات في إسطنبول بحضور وفدين رسميين من روسيا وأوكرانيا، ومشاركة وزيري خارجية تركيا والولايات المتحدة، هاكان فيدان وماركو روبيو، منح الجولة الأولى زخماً دولياً واضحاً.
وفي الجلسة الثانية، خاضت الوفود الفنية من الطرفين نقاشات معمقة حول نقاط الخلاف الرئيسية. المفاجأة الإيجابية جاءت بإعلان الجانبين عن تقدم ملحوظ في مسار الحوار، تَمثَّل في اتفاق على تبادل ألف أسير من كل جانب، والبدء بالإعداد لاجتماع قمة مرتقب بين الرئيسين فلاديمير بوتين وفلوديمير زيلينسكي.
زيارة زيلينسكي لتركيا في هذا التوقيت حملت رسالة دعم لجهود الوساطة، ودفعت باتجاه منح العملية السياسية مزيداً من الجدية. ومع الحديث عن إمكانية مشاركة بوتين وترمب في القمة، بدا أن السياق بات مهيّأ لاختراق سياسي حقيقي. لكن تعثر الوصول إلى اتفاق أوّلي دفع بوتين إلى التراجع عن الحضور، وتبعه ترمب، وإن ظلّ كلاهما يبدي مواقف إيجابية تجاه مستقبل التفاوض.
المفاوضات، كما المتوقع، لا تخلو من تعقيد. إذ تطالب أوكرانيا بضمانات أمنية جديّة من روسيا والغرب، وتصر على بحث مستقبل مناطقها الشرقية وشبه جزيرة القرم، إلى جانب مسعاها للانضمام إلى الناتو. روسيا، من جهتها، ترفض فتح ملف القرم، وتعتبره مغلقًا، وتشدد على منع عضوية أوكرانيا في الحلف الأطلسي، بل وتطالب بتقليص قدرات جيشها.
التوتر السياسي بين ترمب وزيلينسكي، إلى جانب المكاسب الميدانية التي حققتها روسيا، أضعف موقف كييف على الطاولة، ومنح موسكو أوراق ضغط إضافية. ومع ذلك، فإن مجرد جلوس الطرفين إلى طاولة واحدة بعد ثلاث سنوات من الحرب هو إنجاز دبلوماسي مهم يُحسب لتركيا.
أنقرة التي تحظى بثقة الطرفين، وتُبقي على علاقات متوازنة مع موسكو وكييف، تُثبت مرة أخرى أن الوساطة الفعالة لا تحتاج إلى ضجيج، بل إلى قدرة حقيقية على الإصغاء، وتوفير الأرضية التي يحتاجها السلام.
وفي تطور لافت على صعيد الدبلوماسية الإقليمية، استضافت إسطنبول جولة جديدة من المفاوضات النووية بين إيران وثلاث دول أوروبية هي بريطانيا، فرنسا، وألمانيا. وتكتسب هذه المحادثات أهمية خاصة في ظل الضغوط المتزايدة التي يمارسها الرئيس الأمريكي دونالد ترمب على طهران، لدفعها نحو اتفاق نووي جديد، في محاولة لإعادة صياغة المشهد الذي تغيّر منذ انسحابه من الاتفاق السابق.
تجدر الإشارة إلى أن الاتفاق النووي الذي أُبرم عام 2015 في عهد الرئيس الأمريكي باراك أوباما، كانت الدول الأوروبية طرفاً فاعلاً فيه، غير أن انسحاب الولايات المتحدة منه بشكل أحادي في عهد ترمب أضعف فاعليته إلى حد كبير، رغم بقاء الأوروبيين رسميّاً ضمنه.
ومثلها مثل العديد من الدول العربية، تُعارض تركيا أي انتشار للأسلحة النووية أو غيرها من أسلحة الدمار الشامل في المنطقة، وتؤمن بأن الحلول الدبلوماسية هي السبيل الأنجع لتفادي التصعيد. ومن هذا المنطلق، فإن احتضان إسطنبول هذه المحادثات ليس مجرد مسعى تقني، بل هو تأكيد جديد على الدور التركي المتنامي كضامن للاستقرار الإقليمي وشريك موثوق في معالجة أزمات الأمن الدولي.
وهذا الأسبوع، اجتمع وزراء خارجية دول الناتو في أنطاليا. وقد عُقد الاجتماع على شكل لقاء تحضيري للقرارات الحاسمة التي من المقرر اتخاذها خلال قمة الناتو في لاهاي في شهر يونيو/حزيران، وفي إطار البرنامج، عقد وزراء خارجية الولايات المتحدة وسوريا وتركيا اجتماعاً ثلاثياً، شكّل محطة مهمة تتعلق بمستقبل العلاقات الثلاثية، خصوصاً بعد رفع العقوبات الأمريكية عن سوريا.
وفي اليوم نفسه، شارك الرئيس رجب طيب أردوغان في القمة السادسة لـ"المجتمع السياسي الأوروبي" التي أُقيمت في ألبانيا. وهي قمة شاركت فيها 47 دولة، من بينها الدول المرشحة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي والدول التي تربطها علاقات وثيقة به. وعلى هامش القمة، عبّر الرئيس أردوغان عن مواقف تركيا، وعقد العديد من اللقاءات الرسمية وغير الرسمية.
في ختام هذا المشهد الدبلوماسي النشط، تبدو تركيا عازمة على ترسيخ موقعها كركيزة إقليمية للاستقرار، وكمحاور موثوق في أكثر الملفات تعقيداً. من التوترات في جنوب آسيا، إلى الحروب المفتوحة في الشرق الأوسط، وصولاً إلى صراعات أوروبا الشرقية، تتحرك أنقرة على خطوط متوازية، تسعى من خلالها إلى إطفاء حرائق السياسة الدولية لا إشعالها.
وفيما تواجه تحدياتها الداخلية، لا تنكفئ تركيا على نفسها، بل توظف دبلوماسيتها لتأمين بيئة أكثر استقراراً لجيرانها، من سوريا والعراق إلى فلسطين وأوكرانيا.
الأسبوع الماضي لم يكن سوى نموذج مصغّر لمسار دبلوماسي طويل، يؤكد أن أنقرة لم تعد مجرد متلقٍّ للتفاعلات الدولية، بل طرف فاعل في صناعتها.
إن تركيا اليوم لا تكتفي بالمراقبة، بل تصوغ معادلات جديدة في السياسة الدولية، مستفيدة من توازن علاقاتها ومرونتها في التعاطي مع الأطراف المتناقضة. وبينما ينقسم العالم إلى محاور متصارعة، تحاول تركيا أن تكتب لنفسها دوراً ثالثاً، دور الدولة التي لا تُصدّر الأزمات، بل تبتكر حلولها.
جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كتّابها، ولا تعبِّر بالضرورة عن TRT عربي.