لا تمنحُ الحربُ على قطاع غزة طبيبَها، ليبدوَ كما في حقيقته مُنقذاً للأجساد التي تنزف على طريقِ الموتِ فحسب، لكنها تدفعُه ليصبح طبيباً معجزةً يبحث بين أنقاض المخازن عن أيّ أداةٍ بديلة في معركة الأنفاس الأخيرة، إذ يُفاضل بين خيارين أحلاهما مُرّ، "أداة غريبة، أو موتُ مصاب".
في الوقت الذي يتعيّن على د. فضل نعيم استشاري طب وجراحة العظام إجراء العملية للمصاب الواحد في عشر ساعاتٍ، لديه اليومَ ذاتُ العشرِ لعشرين مصاباً، يوزع فيها رفقة فريقه المواد الطبية التي تتوفر بالحد الأدنى على كل مصابٍ بما يضمن بقاءه على قيد الحياة"
يقول الدكتور نعيم في حديث له مع TRT عربي بمرارة: "نحن لا نملك رفاهية الاختيار، بل نلجأ إلى الإجراء الممكن، لا الأنسب". ويوضح أن القرار الطبي غالبا ما يُتخذ داخل غرفة العمليات، لحظة مواجهة الحالة، وبناءً على ما هو متاح من أدوات بديلة تعوّض النقص الحاد في المستلزمات الأساسية.
ويتابع: "ندرك تماماً أن تلك الأدوات قد تُفضي إلى مضاعفات خطيرة، كالتئام غير سليم للعظام، أو التسبب بعدوى، وأحياناً تُجبرنا الظروف على إجراء بتر متأخر للطرف المصاب، بعد محاولات مضنية لتثبيته بوسائل غير كافية".
أساسيات
بالنظر إلى نوعية الإصابات السائدةِ خلال الحرب على قطاع غزة، وضعف مناعة المصابين الذين يعانون بالضرورة نقصاً في التغذية، فإن المضادات الحيوية المتبقية -على قلّتها- لا تُجدي نفعاً في ظل ميكروبات مقاومة لأغلب المضادات.
ما تطلّب تطوير الأطباء لبعض الأدوات غير التقليدية للعناية بجروح المصابين وتعقيمها ببعض المُطهّرات كخلّ الطعام، وفي حالاتٍ مشابهةٍ يُستخدم الكلور المنزلي بنسب معينة، ويبدو أن الأمر يتطلب دراسات معمقة لمعرفة مدى أمان هذه المواد أو تأثيراتها السلبية في جسم الإنسان مستقبلاً كما يعتقد د. نعيم.
ويضيف الدكتور أنه من: "الكارثي أن يطال العجز أساسيات بسيطة في المشافي والعيادات مثل الشاش الطبي، وأجهزة التعقيم، والمناشف المخصصة لعمليات جراحة البطن، والخيوط المستخدمة لتغريز الجلد والكبد، هذه مرفقات لا يمكن لأيّ جراح أن يعمل بدونها، ويعني ذلك الحكم المسبق بموت المريض نزفاً نظراً إلى عجز الجرّاح.
أغرب البدائل
في مشهد يعكس عمق المأساة الطبية التي تعيشها غزة، يروي الدكتور نعيم واقعة اضطراره إلى استخدام مثبّت خشبي مهترئ، عُثر عليه في أحد مخازن المستشفى المعمداني، لتثبيت قدم أحد المصابين.
يعلّق نعيم بسخرية مُرّة: "توجد أدوات يجب أن لا تُرى إلا في متاحف الطب.. هذا فعل نادر الحدوث". لكنه يستدرك بحزم: "حين يفتقر الطبيب إلى أبسط أدواته، يصبح هذا الخيار الوحيد أمامه".
الأغرب من ذلك، كما يقول، كان استخدام فريقه مثقاباً صناعياً من نوع "مقدح" يُستخدم عادة في أعمال النجارة والحدادة، بدلاً من الأدوات الجراحية الدقيقة. ويضيف: "هذه مقادح بلاستيكية غير معقمة، نُكرر تعقيمها بمحاليل قوية، ما يؤدي إلى تلفها سريعاً وفقدانها الفاعلية".
وفي سياق حديثه، شدد الدكتور نعيم على الجهود المتواصلة التي يبذلها الطاقم الطبي للتنسيق مع الوفود الطبية القادمة إلى القطاع، بغرض إدخال معدات تثبيت البلاتين، نظراً إلى خفة وزنها وأمان استخدامها.
إلا أن النتيجة تبقى متشابهة: "إما أن تُصادَر المعدات عند الحواجز، أو تصلنا منقوصة وغير صالحة للعمل الجراحي".
مَهلكة الوقت
منذ قرابة عام ونصف، يرقُب محمد أبو ناصر "32 عاماً" عظام قدميه المكسورتين، دون أن يخرج من بوابة المشفى منذ إصابته الأخيرة، أملاً في تحويلةٍ طبية خارج القطاع.
يخبر أبو ناصر TRT عربي أنه: "بحاجة إلى أكثر من عشر عمليات، إذ أعاني كسراً في الفخد اليمنى، والفخذ اليسرى، وآخر في الحوض، أقعدني عن الحركة وسبب لي تصلباً في المفاصل، وسقوطاً في القدم اليسرى".
وفي رده عن أسوأ ما كان ينقص خلال العمليات التي أجريت له، أجاب "الأصعب أن تموت من الألم من غير بنج، هذا الألم لا يمكن وصفه، ولا تسكّنه كل البدائل الأخرى كالمسكنات وغيرها".
وفي السياق ذاته، يستعيد أبو ناصر مشهداً قاسياً لا يزال محفوراً في ذاكرته، حين رأى الدود الأبيض يخرج من قدمه نتيجة التهاب حاد سببه غياب أبسط المستلزمات الطبية، مثل الشاش والبوليدين اللازم لتغيير الضمادات. يقول بأسى: "كانت أياماً قاسية، والأبشع أنه لم تكن هناك بدائل".
ومع مرور الوقت، تزداد حالته سوءاً. فحسب ما أوضح، فإن قدمه التي التحمت بشكل خاطئ تحتاج اليوم إلى إعادة كسر بسبب غياب البلاتين الداخلي الضروري للعملية الجراحية.
هذا ما أكده أيضاً الدكتور نعيم، الذي شدد على أن تأخر دخول المستلزمات الأساسية يضاعف تعقيد العمليات، ويقلل من نسب نجاحها، قائلاً: "عندما تُجرى العمليات في ظروف ناقصة، تظهر مضاعفات خطيرة مثل التيبس، والالتصاقات، وفقدان القدرة على تحريك الطرف المصاب، وهو ما يجعل حياة المريض صعبة على الدوام.
إعادة تدوير
يعمل المستشفى المعمداني في غزة على مدار الساعة لاستقبال حالات إصابة متعددة، أبرزها الكسور المفتوحة والتهتكات الحادة في الأطراف، والتي تُعد من أكثر الإصابات شيوعاً في ظل العدوان المستمر. غير أن النقص الحاد في أطقم الأدوات الجراحية الخاصة بتركيب البلاتين الداخلي والخارجي يدفع الأطباء إلى اتخاذ إجراءات قسرية، منها إعادة استخدام صفائح البلاتين بعد فكّها من أجساد مصابين سابقين، ثم تعقيمها لتثبيت كسور مرضى جدد.
ويشرح الدكتور نعيم واقع الحال قائلاً: "في الظروف الطبية الطبيعية، توجد صفائح بلاتين مخصصة لكل نوع من أنواع الكسور، حسب طبيعة العظم المصاب. أما نحن، فمضطرون إلى استخدام الصفائح نفسها للحالات كافة، فنعدلها ونثنيها لتتناسب مع موضع الكسر. بل نضطر أحياناً إلى قص براغي البلاتين غير المناسبة لتتلاءم مع الطول المطلوب".
هذا الواقع، كما يصفه، "جراحة تحت القيد"، إذ تتفوّق الضرورة على المعايير، ويصبح كل إجراء مؤقت مغامرة محفوفة بالمخاطر.
لا تبدو حال الإصابات في الوجه والفكين أفضل من غيرها، كما يوضح أحد الأطباء، إذ تتطلب هذه الحالات شرائح معدنية دقيقة لتثبيت الفك المكسور، وهي أدوات غير متوفرة في قطاع غزة بسبب الحصار ونفاد المخزون الطبي.
ولتعويض هذا النقص، يضطر الجراحون إلى إعادة العظم إلى موضعه وتثبيته بأسلاك تُربط بالأسنان من الداخل، ما يفرض على المصاب حمية قسرية دون مضغ طوال فترة التعافي، والتي لا تقل في العادة عن ثلاثة أشهر.
وفقاً لوزارة الصحة في غزة، فإن المستلزمات الطبية المتوفرة داخل القطاع تكفي بالكاد لتغطية ثلاثة أشهر، ضمن خطة طوارئ محدودة. وقد أتى العدوان الأخير ليفاقم الأزمة، ويأتي على ما تبقى من المخزون الطبي، في ظل حصار خانق مستمر منذ سنوات، كما يؤكد الدكتور معتصم صلاح، مدير لجنة الطوارئ في وزارة الصحة لـTRT عربي.
يقول صلاح إن "المنظومة الصحية، التي من المفترض أن تكون محمية بموجب القوانين الدولية، أصبحت هدفاً مباشراً للاحتلال"، مشيراً إلى أن الأطباء باتوا يلجؤون إلى بدائل شديدة البدائية: "نستخدم ما تبقى داخل المستشفيات، نستبدل المصاعد بالأدراج، والفرشات الطبية بأخرى عادية. هذا يضاعف معاناة المرضى ويهدد حياتهم".
ويختم قائلاً بمرارة: "لا وصف لحالة التدهور الحاد في كل ما يتيح لنا أن نكون أطباء. كل يوم نعيشه هنا هو كارثة صامتة، وسط صمت مطبق من المؤسسات الدولية".