في أحد أحياء مدينة إدلب شمالي سوريا، تبدأ صبا عبد الكريم، البالغة من العمر 35 عاماً، صباحها بتوديع طفليها بابتسامة مطمئنة، قبل أن تغادر إلى عملها في واحد من أخطر الميادين على الإطلاق.
ورغم أنها لا ترتدي زياً عسكرياً ولا تحمل سلاحاً، فإنها تخوض يومياً معركة صامتة ضد الموت الكامن في الأرض، مسلّحةً بالمعرفة والتدريب والانضباط.
تشغل صبا منصب نائب قائد فريق إزالة المخلفات الحربية في منظمة "هالو ترست"، وتصف طبيعة عملها في حديثها لـTRT عربي بالقول: "نحن نعمل في بيئة لا تسمح بأي خطأ، حتى وإن بدا بسيطاً. الخطر دائماً حاضر، ولذلك نحرص على أعلى درجات الحذر والالتزام. تلقينا تدريبات على يد خبراء دوليين، ونتعامل مع كل خطوة بحساب دقيق لحماية أنفسنا والفريق".
من خلال هذا الدور الريادي، أسهمت صبا وزميلاتها في كسر الصورة النمطية التقليدية لدور المرأة في المجتمع السوري، حيث فرضن حضوراً لافتاً في واحد من أخطر ميادين العمل.
وتصاعد هذا الحضور النسائي خلال السنوات الأخيرة، خصوصاً بعد سقوط النظام السوري وبدء عودة السكان تدريجياً إلى مناطقهم.
هذه العودة، التي رافقها تصاعد في حوادث الانفجار الناتجة عن الألغام والذخائر غير المنفجرة، دفعت النساء إلى الانخراط في عمليات الإزالة، رغم الأخطار المتزايدة.
يشير تقرير صادر عن "منسقو استجابة سوريا" إلى وقوع انفجارات ناجمة عن مخلفات الحرب في 288 موقعاً داخل الأراضي السورية منذ بداية العام الجاري حتى 22 مايو/أيار، أسفرت عن مقتل 273 مدنياً، بينهم 38 طفلًا و30 امرأة، فضلًا عن إصابة 374 آخرين، منهم 116 طفلًا و20 امرأة.
يؤكد محمد الحلاج، مدير الفريق، في تصريح لـTRT عربي، أن فرق إزالة الألغام لم تكن بمنأى عن هذا الخطر، حيث سُجّل مقتل 41 من العاملين في هذا المجال، إلى جانب إصابة 31 آخرين، ما يعكس حجم التهديد اليومي الذي يواجه هؤلاء العاملين في سبيل إعادة الحياة إلى المناطق المحرَّرة.
ليست كبسة زر
في شمال سوريا، لا تُعدّ عملية تفجير مخلفات الحرب مجرد "ضغطة زر"، بل سلسلة متكاملة من الإجراءات المحكمة تبدأ من لحظة تلقي البلاغ، وتمضي في خطوات دقيقة لا تحتمل الخطأ.
تقول صبا: "عندما يصل إلينا بلاغ من أحد المدنيين أو فرق المسح الميداني، ندرس أولًا الموقع بشكل مبدئي، ثم نتوجه إليه بعد جمع المعلومات المتاحة. المنظمة توزِّع بطاقات تعريفية تحمل أرقام تواصل مخصصة، لتمكين الأهالي من الإبلاغ عند العثور أو الشك بوجود جسم مشبوه".
وتوضح صبا أن الفريق يرسل صورة للمخلَّف الحربي من مسافة آمنة إلى غرفة العمليات، حيث تُحلَّل الصورة ويجري التواصل مع الفريق الميداني للتأكد مما إذا كانت المنطقة تحتوي على ألغام أخرى، خصوصاً أن كثيراً من المناطق ملوَّثة بكثافة كبيرة من الذخائر غير المنفجرة، وغالباً ما تكون هذه الذخائر مدفونة أو مخفيّة، ما يجعل الحذر "رفيقنا الدائم"، كما تقول.
وتشير صبا إلى أن تحديد نوع المخلَّف الحربي بدقة هو مفتاح التعامل الآمن معه، إذ يعتمد الفريق على تحليل تركيبة الجسم المتفجر، والالتزام الصارم بإجراءات السلامة، بما يشمل تجهيز مطفأة حريق مسبقاً، تحسباً لأي طارئ خلال التفجير.
تشرح صبا مراحل التنفيذ قائلةً: "عند وضع الحشوة الناسفة، يكون صمام الأمان مغلقاً بالكامل، ثم يتجه الشخص المكلف بالتفجير إلى نقطة الإطلاق. لا يُضغط على زر التفجير إلا بعد التأكد ثلاث مرات من اكتمال جميع الإجراءات الفنية والأمنية".
لكن في المساء، وبين جدران البيت، يتحول مشهد التفجير القاتل إلى لحظة طفولية دافئة. تقول صبا ضاحكة: "عند عودتي إلى المنزل، أجد طفليّ قد أعدّا حقل ألغام خيالي من وسائد الأريكة. يمسك أحدهما بجهاز تحكم صغير ويبدأ العد: واحد.. اثنان.. ثلاثة! ثم يضغط الزر، وينفجر المكان بالضحكات".
من النزوح إلى قيادة فريق ميداني
لم تكن هبة الحسن، 36 عاماً، تتخيل أن رحلة نزوحها من بلدة حاس في ريف إدلب الجنوبي، ستقودها يوماً إلى العمل في أحد أكثر المجالات خطورة، حيث "يُحوَّل الخطر إلى أمان"، كما تقول.
انضمت هبة إلى منظمة "هالو ترست" قبل ست سنوات، بدايةً في مجال التوعية بمخاطر الألغام، ثم التحقت مطلع هذا العام بفريق الإزالة الميدانية، لتصبح واحدة من ثماني نساء يشكلن نواة خمس فرق ميدانية متخصصة.
تقول لـTRT عربي: "كنا فتاتين فقط في البداية، وكان العمل محصوراً بفريق صغير. لكن مع الدعم المستمر، توسَّع دور النساء وأصبح لهن حضور فعّال في هذا المجال".
بصوت هادئ وإصرار واضح، تشرح هبة خطوات العمل: "نجهّز الحشوة المتفجرة، ونرسم محيط الأمان، ونتواصل مع الجهات المختصة قبل التنفيذ"، كما لو أنها تسرد وصفة حياة تُنقذ بها أرواح مئات المدنيين يومياً.
ورغم التحديات، تجد هبة في هذا العمل مصدراً للفخر. تتحدث عن لحظة مؤثرة حين عاد فريقها إلى قريتها المحرَّرة، وأزال مخلفات حرب من منزل لم يتمكن أصحابه من العودة إليه. تقول: "كان شعوراً لا يوصَف... عدت إلى المكان الذي هُجّرت منه، لكني عدت هذه المرة لإنقاذ الآخرين".
وفي خضمّ هذا العمل الخطير، تبقى هبة أمّاً لثلاثة أطفال، تعود إليهم كل مساء وهي تدرك أن مهمتها تحمي حياة أطفال آخرين، وتمنح الأمان لعائلات لا تعرفها، لكنها تؤمن بأن مصيرها مشترك معهم.
من جهته، أوضح نائب مدير منظمة "هالو ترست" في سوريا، مؤيد النوفلي، أن فرق المنظمة تمكنت حتى اليوم من التخلص من أكثر من 3000 جسم متفجر منذ انطلاق عملها، مشيراً إلى أن الطلب على هذه الخدمات ازداد بشكل كبير خلال الأشهر الأخيرة.
وأضاف في تصريحه لـTRT عربي، أن الفرق طهَّرت نحو 100 ألف متر مربع من الأراضي الملوثة، لا سيما في مناطق خطوط التماس السابقة بريفَي إدلب وحلب، حيث لا تزال المخاطر تهدد حياة السكان العائدين يومياً.
“غرام توعية” خير من “قنطار علاج”
في عمر الخامسة والعشرين، تختار مريم الأسعد، خريجة كلية التربية قسم الإرشاد النفسي والأم لطفلة تبلغ السابعة، أن تواجه أحد أخطر التهديدات في شمال سوريا: مخلفات الحرب.
منذ ثلاث سنوات، تعمل مريم متطوعة في الدفاع المدني السوري (الخوذ البيضاء)، ضمن فريق المسح والتوعية بمخاطر الذخائر غير المنفجرة.
توضح مريم في حديثها لـTRT عربي، أن مهمتها تبدأ فور تلقي بلاغ عن وجود ذخيرة مشبوهة: "نتوجه إلى الموقع مباشرةً، ونقيّم درجة التلوث، ونحدد موقع الذخيرة بدقة، ونُعدّ خريطة تفصيلية للمنطقة قبل تسليمها لفريق الإزالة".
وتؤكد أن هذا العمل لا يعرف الروتين، قائلةً: "قد يبدأ اليوم بجولة ميدانية في قرية موبوءة بالقذائف، وينتهي بجلسة توعية للأمهات داخل مدرسة، فالمهام مزدوجة بين الميدان والمجتمع".
يتكون الفريق الذي تعمل فيه مريم من ستة أشخاص، بينهم امرأتان. وتشير إلى التوسع الكبير في عمل الفرق خلال الأشهر الماضية: "بدأنا بستة مراكز، وكان في كل مركز فريقا مسح وإزالة، تضم 12 متطوعة في المسح و6 في الإزالة".
ومع تفاقم حجم التلوث، أعاد الدفاع المدني هيكلة فرقه وتوسيعها؛ لمواكبة حجم التحديات. تقول مريم: "لدينا الآن 10 فرق مسح، كل منها يضم 6 أفراد بينهم قائد، و11 فريق إزالة يتكون كل منها من 11 فرداً، بالإضافة إلى 8 فرق مختصة بالتوعية المجتمعية، مع استعداد لزيادة هذه الفرق وفق الضرورة".
يوم في الميدان
في مدينة جسر الشغور بريف إدلب الغربي، قررت ديمة السعيد، البالغة من العمر 32 عاماً والأم لأربعة أطفال، أن تخوض طريقاً نادراً في مجتمعها المحافظ؛ فالتحقت قبل عامين بصفوف الدفاع المدني السوري، وتخصصت في إزالة الذخائر غير المنفجرة ومخلفات الحرب.
خضعت ديمة لدورات تدريبية مكثفة شملت التعامل مع القنابل والصواريخ والقذائف العنقودية وكل أشكال الذخائر غير المنفجرة (UXO)، وأصبحت خبيرة في استخدام أجهزة الكشف والتفكيك، وقادرة على تحديد نوع المخلفات وخطورتها والعمل على تفكيكها بأعلى درجات الأمان.
تقول ديمة لـTRT عربي إن أصعب مهمة واجهتها كانت في أثناء إزالة ذخيرة غير منفجرة في حي سكني مكتظ، حيث "كان الخطأ ممنوعاً، وكل خطوة محفوفة بالخطر، والخوف على حياة المدنيين كان يثقل كل حركة".
ولا يقتصر عمل ديمة على الميدان، فهي تشارك أيضاً في حملات التوعية المجتمعية، وترى في وجود النساء في هذا المجال وسيلة فعالة للوصول إلى شرائح مهمة من المجتمع مثل الأمهات والأطفال وكبار السن، ممن قد لا يتفاعلون بسهولة مع الفرق الذكورية.
في شمال غربي سوريا، تواصل ديمة، إلى جانب زميلاتها صبا وهبة ومريم، تحدي ظروف الحرب، وهنّ يشكّلن طليعة نسائية في ميدان محفوف بالمخاطر. بعيداً عن الأضواء، يعملن بصمت بحثاً عن أمان غائب لأطفالهن ومجتمعهن، في معركة لا تُخاض بالسلاح، بل بالشجاعة والانضباط والالتزام بالحياة.