المحطة، التي كانت توفّر المياه لآلاف السكان في شرق غزة وتمتد خدماتها إلى أجزاء من مدينة غزة وصولاً إلى جباليا شمالاً، تحولت إلى كومة من الركام.
ويأتي هذا القصف ضمن سياسة إسرائيلية متواصلة لاستهداف البنية التحتية المدنية، إذ جرى توثيق قصف ممنهج لمحطات التحلية وآبار المياه، إلى جانب قطع الإمدادات التي كانت تصل عبر خطوط شركة "ميكوروت" الإسرائيلية.
السبت الماضي، أعلنت السلطات المحلية في غزة أن إسرائيل أوقفت ضخ المياه من شركة "ميكوروت"، التي كانت تمثّل نحو 70% من إجمالي إمدادات المياه في المدينة، ما فاقم من أزمة العطش، وخصوصاً بين مئات الآلاف من النازحين في مراكز الإيواء والمناطق المنكوبة.
وحذّرت الأمم المتحدة من خطورة الوضع الإنساني، مشيرة إلى أن الوصول إلى مياه الشرب بات تحدياً كبيراً نتيجة تدمير أنظمة الإنتاج والتوزيع، وخاصة في مدينة غزة وشرق خان يونس.
وأضافت أن البنية التحتية للمياه لم تعد قادرة على تلبية الحد الأدنى من الاحتياجات الأساسية للسكان.
أزمة عطش مضاعفة
في مشهد يختزل معاناة قطاع غزة المحاصر، فقدت عائلة "غباين" منشأتها التي لطالما كانت مصدراً رئيسياً للمياه في شرق مدينة غزة، بعدما دمّرها القصف الإسرائيلي للمرة الثالثة منذ بدء العدوان.
يقول أحمد غباين، نجل صاحب محطة "الأقصى–غباين"، إن ما جرى لم يكن مجرد استهداف لمحطة مياه، بل ضربة قاتلة لحياة عائلة كرّست كل ما تملك لتأمين المياه للسكان.
ويضيف: "هذه هي المرة الثالثة التي تُقصف فيها محطتنا، ورغم الدمار كنّا نعود كل مرة، نعيد ترميمها بجهودنا الخاصة، فقط لنوفّر الماء للناس. في القصف الأخير، كان شقيقي يعمل في الموقع، استُشهد، وتناثرت أشلاؤه بين الأنابيب والخزّانات".
ومع كل استهداف، كانت العائلة تعاود المحاولة من جديد، يوضح غباين: "نقلنا المعدات إلى كرفان مؤقت وبدأنا من جديد، لأننا نعلم أن هناك من ينتظر هذه المياه في التفاح، الشجاعية، الدرج، الشيخ رضوان، وحتى جباليا شمالاً".
وبحسب غباين، كانت المحطة تنتج 20 كوباً من المياه في الساعة، ما يجعلها من أكبر منشآت التحلية في شرق غزة.
ويضيف: "قبل أيام فقط سمعنا انفجاراً ضخماً... عرفنا فوراً أن المحطة استُهدفت مجدداً. اليوم لا ماء ولا أمل. الناس كانت تقطع مسافات طويلة لتعبئة المياه، لكن الآن أزمة العطش تضاعفت".
ويأتي هذا الاستهداف في سياق سياسة ممنهجة تتبعها إسرائيل لتدمير مصادر الحياة الأساسية في القطاع، بحسب ما أكدته منظمات حقوقية وأممية.
ففي مارس/آذار الماضي، قطعت إسرائيل الكهرباء عن محطة التحلية الرئيسية وسط قطاع غزة، قبل أن تتوقف ثاني أكبر محطة عن العمل بسبب نفاد الوقود، بعد إغلاق المعابر بشكل كامل منذ مطلع الشهر ذاته.
ووفق بيانات صادرة عن المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، فإن إسرائيل دمرت 719 بئراً للمياه منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، ما أدى إلى شلل شبه تام في شبكة المياه العامة.
وفي ظل هذا التدهور، أفادت مجموعة المياه والصرف الصحي والنظافة الصحية التابعة للأمم المتحدة أن نحو 61% من الأسر في قطاع غزة باتت تعتمد على شراء مياه الشرب من القطاع الخاص، في مؤشر خطير على انهيار منظومة المياه العامة واعتماد السكان على مصادر محدودة ومكلفة وسط تفاقم الأوضاع الإنسانية.
"ننتظر ساعات من أجل غالون واحد"
وفاقم تدمير محطة المياه المركزية في شمال قطاع غزة من معاناة مئات العائلات التي كانت تعتمد عليها مصدراً رئيسياً لتأمين المياه في ظل استمرار الحرب والحصار.
وقال أحد سكان حي التفاح، ممن كانوا يستفيدون من خدمات المحطة، إن قصفها شكّل "ضربة قاسية" للسكان، مؤكداً أن المحطة كانت تغطي مناطق واسعة من شمال غزة، ولا سيما بعد انقطاع الإمدادات من جنوب القطاع في الأسابيع الأولى من الحرب.
وأضاف المواطن، مفضّلاً عدم ذكر اسمه: "كنا نعتمد بشكل أساسي على هذه المحطة لتأمين مياه الشرب والاستخدام اليومي لعائلتي. بعد تدميرها، اضطررنا للبحث عن مصادر بديلة، غالباً ما تكون بعيدة ومياها غير نظيفة، ما زاد من معاناتنا".
وأوضح أن المحطة كانت توفّر نوعين من المياه: مياه عذبة للشرب، ومياه مالحة للاستخدامات المنزلية، وكانت عملياً المصدر شبه الوحيد في شمال القطاع في ظل تدهور البنية التحتية.
وتابع: "اليوم لم يتبقَّ سوى محطة واحدة صغيرة لا تكفي لتغطية حاجة السكان، ولا تُقارن بحجم المحطة التي دمّرتها إسرائيل".
ووصف مشاهد الازدحام أمام مصادر المياه القليلة المتبقية قائلاً: "نقطع مسافات طويلة وننتظر ساعات من أجل تعبئة غالون واحد، وأحياناً يكون هذا الغالون مخصصاً لعائلة كاملة من خمسين شخصاً".
من جهتها، اعتبرت حركة حماس أن تدمير محطة تحلية المياه في غزة يُعد "جريمة حرب موصوفة"، مشيرة إلى أن الاستهداف يهدف إلى تشديد الحصار وحرمان السكان من أبسط مقومات الحياة.
ويُذكر أن جيش الاحتلال الإسرائيلي أغلق المعابر بشكل كامل منذ 2 مارس/آذار الماضي، مانعاً دخول الإمدادات الأساسية من غذاء ومياه ووقود، ما أدى إلى تفاقم الوضع الإنساني وارتفاع مؤشرات الجوع والعطش في جميع أنحاء القطاع.
وفي هذا السياق، أفاد تقييم أجرته الأمم المتحدة أن نحو 36% من الأسر في غزة لم تتمكن من الحصول على الحد الأدنى اليومي من المياه، والمُحدد بـ15 لتراً للفرد، وهو الحد الأدنى المطلوب للطهي والنظافة والشرب في حالات الطوارئ لحماية الصحة العامة.
تفاقم الأوضاع المعيشية
حذّرت بلدية غزة من تفاقم خطير في أزمة المياه في القطاع، مؤكدة أن العدوان الإسرائيلي المستمر ألحق دماراً واسعاً بالبنية التحتية للمياه، ما ساهم في تدهور الأوضاع المعيشية والصحية على نطاق واسع.
وقال المتحدث باسم بلدية غزة، حسني مهنا، إن الواقع المائي في القطاع بات "كارثياً"، مشيراً إلى أن الهجمات الإسرائيلية استهدفت أكثر من 40 بئراً رئيسيةً للمياه منذ بداية الحرب، ما أدى إلى انخفاض حاد في كميات المياه المتاحة للسكان.
وأوضح مهنا أن البلدية تبذل جهوداً كبيرة لتوفير بدائل مائية رغم محدودية الإمكانيات، إلا أن حجم الدمار واسع جداً ويصعب تعويضه في ظل الحصار المتواصل والعدوان المستمر.
وأضاف أن توقف ضخ المياه عبر خط "ميكوروت" الإسرائيلي فاقم من الأزمة بشكل كبير، إذ تسبب في عجز يتجاوز 70% من احتياجات مدينة غزة المائية. وأشار إلى أن هذا الخط يُعد المصدر الرئيسي للمياه في القطاع، ما جعل فقدانه ضربة قاسية للسكان.
وبحسب مهنا، فقد دمّر الاحتلال خلال الحرب أكثر من 64 بئر مياه، إلى جانب أكثر من 110 آلاف متر طولي من شبكات المياه، وهو ما انعكس سلباً على قدرة البلديات على تزويد السكان بكميات كافية من المياه، وخاصة في المناطق المكتظة والواقعة تحت الحصار المباشر.
وأشار إلى أن أزمة المياه تتقاطع مع أزمات أخرى لا تقل خطورة، مثل تفاقم الجوع، واستمرار الحصار، وتدهور الأوضاع الصحية والبيئية.
وأضاف: "تكدّس النفايات وتسرب مياه الصرف الصحي يشكل تهديداً مباشراً على حياة السكان، وخصوصاً في ظل غياب المياه الصالحة للتعقيم والنظافة وطهي الطعام".
وأكدت بلدية غزة أن هذه الظروف مجتمعة تنذر بكارثة إنسانية واسعة النطاق ما لم يجرِ تداركها بسرعة، داعية إلى تدخل دولي عاجل لإعادة تشغيل مصادر المياه وضمان وصول الإمدادات الأساسية للمدنيين.
وبدعم أمريكي مطلق يرتكب الاحتلال الإسرائيلي منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 إبادة جماعية بغزة، خلفت أكثر من 166 ألف شهيد وجريح من الفلسطينيين، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 11 ألف مفقود.