لكن على الأرض، تتّسع الفجوة بين هذه الإعلانات والاحتياجات الفعلية. فحسب وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، يحتاج قطاع غزة إلى ما بين 500 و600 شاحنة مساعدات يومياً لتفادي اتساع رقعة الجوع في أوساط سكانه الذين يتجاوز عددهم 2.1 مليون نسمة.
في المقابل، أفادت الأمم المتحدة بأن ما تمكّن المجتمع الدولي من إدخاله إلى القطاع منذ إعلان إسرائيل الأخير لا يتعدى 100 شاحنة يومياً.
وحتى هذا الرقم، تقول منظمة الأغذية العالمية (WFP) إنه لم يتحقق فعلياً، مؤكدة أن عدد الشاحنات المسموح بدخولها يومياً لا يتجاوز نحو 50 شاحنة، وهو ما حال دون إعادة فتح المخابز والمطابخ المجتمعية التي توقفت عن العمل منذ مايو/أيار وكانت تُعدّ شرياناً حيوياً للحياة.
وفي جلسة إحاطة أمام مجلس الأمن بتاريخ 16 تموز/يوليو، قالت كاثرين راسل، المديرة التنفيذية لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف)، إن الوضع الإنساني في غزة بلغ مستوى كارثياً، مشيرة إلى أن أكثر من 17000 طفل قُتلوا وأصيب 33000 آخرون خلال 21 شهراً من الحرب.
وأضافت راسل أن هذا الرقم يعادل مقتل صف دراسي يضم 28 طفلاً يومياً في المتوسط، مضيفة: "هؤلاء الأطفال ليسوا مقاتلين. إنهم يُقتلون أو يُصابون فيما يقفون في طوابير بانتظار الغذاء والدواء والمياه".
وشدّدت على أن "الحقيقة البسيطة هي أننا نخذل أطفال غزة. وفي نظرهم، فإن إخفاقنا يُعد خيانة لحقهم في أن يكونوا أطفالاً".
علاج سوء التغذية الحاد
أفاد التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي (IPC)، المعتمد عالمياً لرصد مستويات الجوع، بأن أكثر من 20 ألف طفل في غزة أُدخلوا المستشفيات بين أبريل/نيسان ومنتصف يوليو/تموز نتيجة إصابتهم بسوء تغذية حاد، في ظل انهيار منظومة الإمدادات الغذائية بفعل الحصار الإسرائيلي المستمر.
وتركّز منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) على التسليم العاجل لأغذية علاجية خاصة، مثل معجون الفول السوداني عالي الكثافة والبسكويت الغني بالطاقة، وهي مواد تُعد ضرورية لإنقاذ حياة الأطفال الذين يعانون من سوء تغذية حاد قبل أن يتمكنوا من العودة إلى الطعام العادي.
أما الأطفال دون سن الستة أشهر، فيحتاجون إلى تركيبات غذائية علاجية ذات تأثير مشابه، وهي مواد تحذر "يونيسيف" من أنها قد تنفد بالكامل بحلول منتصف أغسطس/آب إذا لم تُستأنف الإمدادات سريعاً.
وتُفاقم الأزمة ندرة الأدوية الأساسية، إذ تؤكد منظمة الصحة العالمية أن مخزون المضادات الحيوية الضرورية لعلاج المضاعفات الشائعة لدى الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية، يوشك على النفاد.
ويقول خبراء إن معظم الأطفال الذين يُعانون من سوء تغذية حاد يمكن إنقاذهم خلال فترة تتراوح بين 8 و10 أسابيع من العلاج المكثف. لكن في حالة الأطفال دون سن الثانية، الذين يتأثر نمو أدمغتهم بشكل مباشر بسبب الجوع، فإن فرص التعافي الكامل تقل كثيراً، وقد تؤدي إلى أضرار دائمة في النمو العصبي والمعرفي.
وأكدت "يونيسيف" أن التعافي الكامل للأطفال لا يتوقف فقط على الأغذية العلاجية قصيرة الأمد، بل يتطلب توفر غذاء متوازن ومتنوع على المدى الطويل، يشمل الفاكهة والخضراوات واللحوم، وهو ما لا يمكن تحقيقه دون استئناف فوري وفعّال للإمدادات التجارية إلى قطاع غزة.
مخاطر في عملية التوزيع
وسط تصاعد التحذيرات من المجاعة في قطاع غزة، كشفت بيانات أممية أن سبل إيصال المساعدات الإنسانية بأمان إلى المستحقين لا تزال تعاني من اختلالات خطيرة، رغم إعلان إسرائيل رفع القيود جزئياً منذ مايو/أيار الماضي.
فحسب بيانات الأمم المتحدة، التي تغطي الفترة بين 19 مايو/أيار و25 يوليو/تموز 2024، لم تصل إلا شاحنة واحدة من كل ثماني شاحنات مساعدات إلى وجهتها النهائية، ضمن عملية التوزيع التي تُشرف عليها المنظمة الدولية.
أما باقي الشحنات، فقد جرى نهبها، إما من مدنيين جائعين أو جماعات مسلّحة خلال النقل، وفق توصيف الأمم المتحدة، ما يعكس هشاشة البيئة الأمنية والإنسانية داخل القطاع.
وفي السياق ذاته، أظهر تحليل داخلي أجرته الحكومة الأمريكية أنه لا توجد أدلة على سرقة ممنهجة للإمدادات الإنسانية عبر حركة حماس، بما في ذلك المساعدات الممولة من الولايات المتحدة.
في المقابل، ترفض الأمم المتحدة التعاون مع مؤسسة "غزة الإنسانية"، وهي الجهة التي اعتمدتها إسرائيل لتولي توزيع المساعدات داخل القطاع، بسبب مخاوف من افتقارها إلى الشفافية والاستقلالية. كما أظهرت التقارير أن العمليات التي تنفذها هذه المؤسسة غالباً ما تكون أكثر خطورة، خصوصاً في مناطق التوزيع الميدانية.
وتشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن القوات الإسرائيلية قتلت أكثر من ألف مدني في أثناء محاولتهم الحصول على مساعدات غذائية، معظمهم قُتلوا بالقرب من مواقع التوزيع العسكرية المرتبطة بمؤسسة "غزة الإنسانية".
وتعتمد هذه المؤسسة على شركة إمداد أمريكية خاصة يديرها ضابط سابق في وكالة المخابرات المركزية (CIA) إلى جانب محاربين أمريكيين قدامى يعملون مقاولين أمنيين مسلحين، ما أثار جدلاً واسعاً بشأن عسكرة العمل الإنساني، وتقويض حيادية المساعدات في مناطق النزاع.
ومنذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، تشن إسرائيل حرب إبادة جماعية في غزة تشمل القتل والتجويع والتدمير والتهجير القسري، متجاهلة النداءات الدولية كافة وأوامر لمحكمة العدل الدولية بوقفها.
وخلفت الإبادة، بدعم أمريكي، أكثر من 205 آلاف فلسطيني بين شهيد وجريح، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 9 آلاف مفقود، إضافة إلى مئات آلاف النازحين ومجاعة أزهقت أرواح كثيرين.