في مدينة خان يونس، وفيما كان علاء أبو جميزة يقود جرافة لفتح أحد الشوارع، اصطدمت شفرة الآلية بقنبلة مدفونة تحت الركام، لم تكن مرئية.
"كنا نلعب، ما شُفناش أي شيء. حسّينا بالانفجار فجأة، نار وخوف"، قال الفتى سعيد عبد الغفور (15 عاماً)، الذي كان على مقربة من موقع الانفجار. وأُصيب سعيد إصابة بليغة، وفقد إحدى عينيه. أما السائق علاء أبو جميزة، فقد أُصيب بحروق وشظايا في يديه وساقيه، وفقد هو الآخر إحدى عينيه.
هذه الحادثة ليست معزولة، إذ تُظهر قاعدة بيانات مشتركة، جمعتها وكالات أممية ومنظمات غير حكومية عاملة في القطاع، أن ما لا يقل عن 23 شخصاً استُشهدوا، وأُصيب 162 آخرون منذ بدء الحرب في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، بسبب انفجار ذخائر لم تنفجر أو لم يجرِ التعامل معها بحذر.
ويوضح عمال الإغاثة أن العدد الحقيقي للضحايا أعلى بكثير، بسبب غياب آليات الإبلاغ الفعالة.
وتؤكد تسعة مصادر من العاملين في المجال الإنساني أن الجهود الدولية لنزع هذه الذخائر تعرقلها القيود الإسرائيلية الصارمة على دخول معدات إزالة الألغام إلى غزة.
ووفق وثيقة أعدّتها منظمتان متخصصتان في إزالة الألغام، رفضت السلطات الإسرائيلية، بين مارس/آذار ويوليو/تموز 2024، السماح بإدخال أكثر من 2000 سلعة تُستخدم في هذا المجال، من بينها مناظير، ومركبات مدرعة، وأسلاك تفجير.
وقال جيريمي لورانس، المتحدث باسم مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، إن "عملية إزالة الألغام لم تبدأ بعد بسبب القيود المفروضة على دخول المعدات الحيوية".
محذراً من أن هذه العقبات تشكِّل "تحديات خطيرة كان يمكن تجنبها" أمام العاملين في الميدان الإنساني.
عقد ونصف مليار دولار
على الرغم من غياب أي مسح شامل حتى الآن، يُحذّر خبراء أسلحة من أن حجم التلوث بالذخائر قد يكون أضخم بكثير مما هو ظاهر؛ سبعة من هؤلاء الخبراء، شاركوا في مناقشات نسّقتها الأمم المتحدة بشأن جهود إزالة الألغام، أكدوا أنه من المبكر تقديم تقديرات دقيقة بشأن عدد الذخائر التي لم تنفجر.
وأشاروا إلى أن الحديث العلني حول هذه القضية قد يهدد فرص عملهم الميداني في غزة، ما دفع معظمهم إلى طلب عدم الكشف عن هويتهم.
ووفق دائرة الأمم المتحدة للأعمال المتعلقة بالألغام (UNMAS)، التي تتولى مهمة إزالة مخلفات الحروب وتوعية السكان وتقديم الدعم للضحايا، فقد رُصدت مئات القطع من الذخائر غير المنفجرة فوق الأرض، من بينها قنابل طائرات، وصواريخ، وعبوات ناسفة بدائية، وقذائف هاون.
وأشارت الدائرة إلى أن مزيداً من هذه القنابل قد تكون مدفونة بعمق بين الركام أو تحت الأرض، ما يزيد من صعوبة الوصول إليها.
وأورد تقرير أممي أنه جرى العثور على قنبلتين في محطة كهرباء النصيرات وسط القطاع، فيما قال جاري تومز، خبير تفكيك الذخائر في منظمة "هيومانيتي آند إنكلوجن" الإنسانية، إنه لاحظ استخدام بقايا قنابل دعائمَ في بعض خيام النازحين، ما يعكس حجم التهديد المتناثر في كل زاوية من القطاع.
أما على المدى الطويل، فقدّرت "مجموعة الحماية" -وهي تجمُّع يضم وكالات تابعة للأمم المتحدة ومنظمات غير حكومية- في تقرير نُشر في ديسمبر/كانون الأول الماضي، أن إزالة هذه الذخائر بشكل كامل قد يستغرق نحو عشر سنوات، ويستلزم تمويلاً لا يقل عن 500 مليون دولار.
وتؤكد المجموعة أن إنجاز هذه المهمة يتطلب تعاوناً تاماً من إسرائيل، وهو ما لم يتحقق حتى الآن.
4000 ذخيرة لم تنفجر
يشبّه جريج كراوذر، مدير البرامج في "المجموعة الاستشارية للألغام" (MAG)، حجم الدمار في قطاع غزة بزلزال هائل، لكن ما يزيد المشهد قتامة، وفق تعبيره، هو وجود آلاف القنابل غير المنفجرة بين الركام، ما يجعل عمليات إعادة الإعمار أكثر تعقيداً وخطورة.
كراوذر، الذي تعمل منظمته الإنسانية الدولية على تعقّب وإزالة وتدمير الذخائر المتفجرة في مناطق النزاع، أوضح أن "عملية إعادة الإعمار ستكون طويلة للغاية، وهذا الكم من الذخائر غير المنفجرة سيؤدي بلا شك إلى إطالة المدة أكثر فأكثر".
وبالاستناد إلى تقديرات تشير إلى أن الغارات الجوية الإسرائيلية على غزة تجاوزت 40 ألف غارة، وإذا قُدِّر أن كل غارة أسقطت قنبلة واحدة فقط، فإن نسبة 10% من الذخائر التي لم تنفجر تعني وجود نحو 4000 قنبلة لا تزال مهدِّدة لحياة السكان.
وهذا الرقم لا يشمل القصف البحري أو البري، ولا الذخائر التي قد تكون قد خلَّفتها فصائل فلسطينية، بما فيها حماس وحلفاؤها.
ويعتقد بعض الخبراء أن نسبة القنابل غير المنفجرة قد تكون أعلى من ذلك، خصوصاً في المناطق الحضرية المكتظة.
ويشرح كراوذر أن "القنابل التي تُطلق على مبانٍ متعددة الطوابق لا تنفجر دائماً عند الاصطدام، خصوصاً إن كانت تلك المباني قد تعرّضت سابقاً لأضرار، مما يزيد من احتمالية عدم انفجار الذخائر لكنها تكون نشطة".
ويقول جاري تومز، خبير إزالة الألغام في منظمة "هيومانيتي آند إنكلوجن"، إن ما يشهده في غزة "هو الوضع الإنساني الأكثر تعقيداً وخطورة على الإطلاق"، رغم خبرته الممتدة على مدى 30 عاماً في مناطق صراع مثل العراق وسوريا ولبنان وأوكرانيا. ويضيف: "هذا الوضع عسير للغاية على الصعيدين الفني والإنساني".
وتُظهر بيانات "مشروع بيانات مواقع النزاعات المسلحة وأحداثها" (ACLED)، أن قطاع غزة يتعرض لغارات جوية شبه يومية، وقد سُجل أكثر من 8000 غارة جوية في قاعدة بيانات المشروع، مع الإشارة إلى أن الغارة الواحدة قد تشمل هجمات متعددة.
وحسب المصدر نفسه، فإن عدد الغارات التي نفَّذتها إسرائيل في غزة بحلول نهاية عام 2024، يفوق بتسعة أضعاف عدد الغارات التي نفَّذها التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة في معركة الموصل في العراق خلال عامي 2016 و2017.
قنابل “مارك 80” تحاصر غزة
تواجه الشرطة الفلسطينية في قطاع غزة صعوبات هائلة في التعامل مع الذخائر غير المنفجرة وسط الدمار الهائل، بسبب افتقارها للمعدات اللازمة لإزالة الأنقاض بطريقة آمنة.
وأكد سلامة معروف، رئيس المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، أن 31 من عناصر وحدة هندسة المتفجرات التابعة للشرطة قُتلوا، وأُصيب 22 آخرون منذ بدء الحرب، بما في ذلك خلال محاولات تفكيك القنابل.
وفي بلدة القرارة، حيث وقع انفجار مدمِّر في 27 يناير/كانون الثاني في أثناء عمل جرافة لرفع الأنقاض، ناشد رئيس البلدية باسم شراب، الجهات الدولية التدخل والمساعدة في إزالة الذخائر والركام.
لكن المنظمات المختصة في هذا المجال تؤكد أنها بحاجة أولاً إلى موافقات إسرائيلية تشمل إصدار تأشيرات دخول لخبراء، والسماح بإدخال مركبات مدرعة ومعدات تفكيك، بما فيها أدوات حفر؛ للوصول إلى القنابل المدفونة عميقاً تحت الأرض.
وفي ظل هذه القيود، يقول خبراء إزالة الألغام إن أقصى ما يمكنهم فعله في الوقت الراهن هو تحديد مواقع الذخائر غير المنفجرة بعلامات تحذيرية، ومحاولة تجنب وقوع حوادث، خصوصاً بين الأطفال الذين يُعدّون الأكثر عُرضة للخطر.
من أخطر الذخائر التي أُبلغ عن استخدامها في غزة سلسلة قنابل “مارك 80” الأمريكية الصنع، وعلى رأسها “مارك 84”، وهي قنبلة ثقيلة تزن نحو ألفي رطل، لطالما وصفها الطيارون الأمريكيون في حرب الخليج الأولى بلقب "المطرقة".
وأرسلت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن آلافاً من هذه القنابل إلى إسرائيل، قبل أن تُعلّق عمليات تسليمها مؤقتاً العام الماضي بسبب القلق من تأثيرها على المدنيين، إلا أن إدارة دونالد ترمب أعادت تفعيل هذه الإمدادات لاحقاً.
وحسب منظمة "PAX" الهولندية المعنية بالسلام، فإن انفجار قنبلة “مارك 84” يُخلّف حفرة بعرض 14 متراً، ويدمّر كل شيء في محيط سبعة أمتار، ويُقتل معظم من هم ضمن دائرة قطرها 31 متراً.
وتُقدِّر القوات الجوية الأمريكية أن شظايا القنبلة قد تمتد لمسافة تصل إلى 400 متر، ما يجعل استخدامها في مناطق مكتظة بالسكان مثل غزة كارثياً على نحو غير مسبوق.