زيارة فيدان، التي تُعَدّ أول لقاء رسمي مباشر على مستوى وزراء الخارجية بين البلدين منذ مجيء ترمب، تحمل دلالات عميقة تتجاوز البعد البروتوكولي إلى مضامين استراتيجية تمس جوهر التفاهمات الإقليمية والدولية المقبلة.
ففي عهد بايدن لم تتردد واشنطن في تبني خطاب متشدد تجاه أنقرة، وذهب الرئيس الديمقراطي إلى حد التصريح علناً بعزمه دعم المعارضة التركية للإطاحة بالرئيس رجب طيب أردوغان، غير أن هذه السياسة لم تؤتِ ثمارها، وأثبتت الانتخابات التركية الأخيرة مجدداً متانة الدعم الشعبي لحزب العدالة والتنمية وقيادته.
تأتي زيارة هاكان فيدان في توقيت بالغ الحساسية، إذ يشهد العالم تحولات جيوسياسية متسارعة، بدءاً من تصاعد التوترات في الشرق الأوسط مع تجدد العدوان الإسرائيلي على غزة، مروراً بالحرب الروسية–الأوكرانية التي دخلت مرحلة معقدة من الاستنزاف، ووصولاً إلى التغيرات العميقة في موازين القوى داخل سوريا واليمن ولبنان.
وفي خضمّ هذه المتغيرات، تسعى تركيا إلى إعادة تموضعها باعتبارها فاعلاً إقليمياً مؤثراً، وتحقيق توازن دقيق بين تحالفاتها التقليدية ومصالحها الوطنية المستقلة.
سوريا الجديدة
واحد من أبرز الملفات التي طُرحت على طاولة المحادثات بين فيدان ونظيره الأمريكي كان "سوريا الجديدة"، إذ تؤكد أنقرة رفضها القاطع لأي مشروع يهدف إلى منح امتيازات سياسية أو عسكرية لامتداد تنظيم PKK الإرهابي في سوريا.
وفي هذا السياق، اتفق الجانبان على أهمية الحفاظ على وحدة الأراضي السورية، كما جرى بحث مقترحات لإدماج تنظيم SDG ضمن هيكلية النظام السوري الجديد بشروط تحول دون تشكيله أي تهديد مباشر لأمن تركيا أو للاستقرار الإقليمي.
تركيا من جانبها أطلقت مؤخراً مساراً سياسياً لإقناع عناصر تنظيم PKK الإرهابي بالتخلي عن السلاح، وتسعى لضمان عدم إجهاض هذا المسار بأي تدخل خارجي، سواء من الولايات المتحدة أو إسرائيل.
وفي ضوء ذلك، تكثف أنقرة مشاوراتها مع واشنطن والدول الأوروبية من أجل رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا، وتقديم مساعدات إنسانية عاجلة للاجئين، انطلاقاً من قناعة بأن الاستقرار لا يتحقق إلا عبر أدوات سياسية وإنسانية متوازنة.
الملف الفلسطيني لم يكن بعيداً عن جدول الأعمال، فقد جاءت زيارة فيدان بعد أيام من خرق إسرائيل لاتفاق وقف إطلاق النار، وتجدد قصفها لقطاع غزة، ومنعها دخول المساعدات الغذائية والدوائية.
ودعت أنقرة واشنطن إلى ممارسة ضغوط حقيقية على تل أبيب لوقف العدوان ورفع الحصار، مؤكدة أن الصمت الدولي تجاه الجرائم الإسرائيلية يقوّض أُسُس الشرعية الدولية ويزيد حدّة التطرف والاحتقان في المنطقة.
أما في الملف الأوكراني، فتواصل تركيا لعب دور المراقب النشط، من دون الانخراط وسيطاً مباشراً في مفاوضات السلام الجارية في السعودية. ويبدو أن مع واشنطن تفاهماً ضمنياً على استمرار هذا النهج، مع الحفاظ على قنوات التواصل والتنسيق في القضايا الدفاعية والأمنية المشتركة.
على صعيد العلاقات الثنائية، تمثل زيارة هاكان فيدان بداية نهاية التوتر الذي ساد خلال ولاية بايدن. فالرئيس أردوغان أجرى اتصالاً هاتفياً مع ترمب قبيل الزيارة، في إشارة إلى عودة الدفء إلى خطوط الاتصال بين الزعيمين.
ومن اللافت أن قضية اعتقال رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو لم تلقَ أي دعم من الإدارة الأمريكية، بل أعلن وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو بوضوح أن بلاده لا تتدخل في الشؤون الداخلية لتركيا، وتؤمن بأهمية استقرارها، وهو تصريح يمثل تحوّلًا عن الخطاب الأمريكي التدخلي المعتاد.
ولا تكتمل صورة هذه الزيارة دون التطرق إلى الملف العسكري، الذي كان ولا يزال أحد أعمدة العلاقات التركية–الأمريكية. فمنذ انضمامها إلى الناتو، شكّلت تركيا شريكاً استراتيجياً للولايات المتحدة، واستضافت على أراضيها قواعد مهمة للتحالف.
لكنَّ تعثُّر تسليم منظومة باتريوت من واشنطن، ولجوء أنقرة إلى شراء منظومة S-400 من روسيا، فتحا باب الخلاف بين البلدين وأدى إلى فرض عقوبات على الصناعات الدفاعية التركية.
غير أن إدارة ترمب، بعكس سابقتها، تبدي انفتاحاً ملحوظاً نحو تخفيف العقوبات وإعادة إدماج تركيا في برنامج مقاتلات F-35. وشهدت زيارة فيدان تقدماً في ملف تسليم مقاتلات F-16، الذي كان متوقفاً منذ سنوات.
كما أعلنت تركيا أنها ستُنتِج محليًّا 79 مجموعة تحديث لهذه الطائرات ضمن اتفاقية تصل قيمتها إلى 23 مليار دولار.
ختاماً، يمكن القول إنَّ زيارة هاكان فيدان تحمل ملامح بداية جديدة في العلاقات التركية–الأمريكية، وتُمهِّد لمرحلة من التعاون البراغماتي القائم على المصالح المتبادلة لا الإملاءات.
وهي تمثل كذلك محطة تمهيدية مهمة لزيارة مرتقبة للرئيس أردوغان إلى واشنطن، التي قد تُشكِّل لحظة مفصلية تُرسَم فيها ملامح التفاهمات القادمة بين أنقرة وترمب، في منطقة تقف بأسرها على عتبة تحولات تاريخية.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.