ومنذ انتهاء الحرب الأخيرة، كثّفت واشنطن ضغوطها على بيروت لدفعها نحو حصر السلاح بيد الدولة، وهو المطلب الرئيسي الذي حمله باراك في زيارته الحالية التي استمرت يومين.
بدلاً من الموافقة على "ورقة المقترحات" الأمريكية المقدَّمة في 19 يونيو/حزيران، قدّمت السلطات اللبنانية "أفكاراً للحل"، وصفتها واشنطن بأنها موضع ترحيب، لكنها لم تتضمن التزامات واضحة، لا سيما في ما يتعلق بحصر السلاح شمال نهر الليطاني ضمن جدول زمني محدد.
وعبّر باراك، الاثنين، عن "رضاه وامتنانه" للرد اللبناني، في وقت بقي فيه الموقف الرسمي من المقترحات الأمريكية ضبابياً.
يأتي ذلك في ظل رفض معلن من حزب الله، إذ أكد نائب الأمين العام للحزب، نعيم قاسم، في خطاب ألقاه خلال مناسبة عاشوراء، أن الحزب لن يتخلى عن سلاحه قبل "زوال العدوان الإسرائيلي" وانسحاب قوات الاحتلال من الأراضي اللبنانية.
ورغم الاتفاقات الدولية، لا يزال الجيش الاحتلال الإسرائيلي يحتل خمس تلال لبنانية جنوبية سيطر عليها خلال الحرب الأخيرة، إضافة إلى مناطق أخرى خاضعة لاحتلاله منذ عقود، ما يعقّد أي خطوة باتجاه تنفيذ المطالب الأمريكية.
باراك تسلّم الرد اللبناني خلال سلسلة لقاءات جمعته، يوم الاثنين، بكبار المسؤولين، بدءاً بالرئيس جوزيف عون، الذي قدّم له ما وصفه بـ"أفكار لبنانية لحل شامل"، وفق بيان رسمي صادر عن الرئاسة.
من جانبه، وصف رئيس مجلس النواب نبيه بري اللقاء مع باراك، الذي استمر أكثر من ساعة، بأنه "جيّد وبنّاء"، مشدداً على أنه أخذ بعين الاعتبار "مصلحة لبنان، وسيادته، وهواجس جميع اللبنانيين، بما في ذلك مطالب حزب الله".
أما رئيس الحكومة نواف سلام، فقد أكد أن أي خطوات نحو نزع السلاح لا يمكن أن تحدث بمعزل عن انسحاب إسرائيل الكامل من الأراضي اللبنانية، ووقف الأعمال العدائية، وبدء عمليات إعادة الإعمار، والإفراج عن الأسرى.
نافذة للتفاوض
وقال مصدر لبناني مطّلع على فحوى الاجتماعات مع المبعوث الأمريكي توماس باراك لوكالة الأناضول إن الزيارة "فتحت نافذة لمزيد من المفاوضات"، مشيراً إلى أن لبنان قدّم رداً رسمياً رحّب به الموفد الأمريكي، دون أن يتطور ذلك إلى اتفاق.
وأوضح المصدر، الذي فضّل عدم الكشف عن اسمه، أن الرد اللبناني ما زال في إطار "تبادل الأفكار"، ولم يُعرَض بعدُ على مجلس الوزراء لإقراره رسمياً، كما لم يُحدّد أي جدول زمني لمفاوضات لاحقة بشأنه.
وأضاف أن "الجانب الأمريكي وعد بدراسة الرد والعودة بملاحظات إضافية في وقت لاحق".
من جانبه، قال الكاتب والمحلل السياسي يوسف دياب للأناضول إن "الهدوء الدبلوماسي الذي أبداه باراك لا يعكس بالضرورة حقيقة الموقف الأمريكي".
وأضاف أن واشنطن لا تزال "متمسكة بنزع سلاح حزب الله وكل المجموعات المسلحة غير الشرعية في لبنان".
ورأى دياب أن "غياب جدول زمني واضح في الرد اللبناني يُضعِف موقع بيروت التفاوضي، ويفتح الباب أمام تل أبيب لتصعيد الموقف"، محذراً من أن هذا الغموض قد يدفع الإدارة الأمريكية، برئاسة دونالد ترمب، إلى تبنّي موقف أكثر تشدداً، خصوصاً في ظل التنسيق القائم بين واشنطن وتل أبيب خلال زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو للبيت الأبيض، والتي تستمر حتى الخميس.
وأضاف دياب: "باراك دبلوماسي بارع، لكن ذلك لا يعني أن الولايات المتحدة متساهلة في ملف نزع السلاح. هذا الموضوع يشكّل محوراً أساسياً في مقاربتها للبنان".
وأشار إلى أن "عدم تضمين الرد اللبناني خطة زمنية واضحة لنزع سلاح حزب الله والفصائل الفلسطينية، وترك الأمور في إطار ضبابي، يُنذر بانعكاسات سلبية على لبنان".
كما أشار إلى أن الرد سيخضع لدراسة معمقة داخل الإدارة الأمريكية، وقد يُعرَض أيضاً على الجانب الإسرائيلي، "الذي لا يبدو مستعداً لقبول حلول وسط، ويطالب بقرارات حاسمة، وإلا فإن التصعيد في لبنان سيُستأنف بوتيرة أعلى".
بلا ضمانات أمنية
ويرى الكاتب السياسي غسان ريفي أن المبعوث الرئاسي الأمريكي توماس باراك "أظهر براغماتية تفوق تلك التي يبديها كثير من الساسة اللبنانيين، الذين سارعوا إلى إطلاق توقعات سلبية قبل وصوله إلى بيروت".
وقال ريفي في حديث لوكالة الأناضول إن باراك "وصف الرد اللبناني بالإيجابي والبنّاء"، مشيراً إلى أن قضية السلاح "مسألة داخلية يجب على اللبنانيين أن يجدوا الصيغة المناسبة لمعالجتها بأنفسهم".
مع ذلك، حذّر ريفي من أن "الجانب الأمريكي لم يقدم أي التزام لوقف الاعتداءات الإسرائيلية على الجنوب اللبناني، ما يثير قلقاً مشروعاً لدى اللبنانيين إزاء النيات الحقيقية الكامنة خلف الطرح الأمريكي".
وأضاف: "من الطبيعي أن تكون الثقة بأمريكا وإسرائيل محدودة، خصوصاً أن باراك تحدث عن تنازلات مطلوبة من الجانب اللبناني، دون أن يقابل ذلك التزام أمريكي واضح لوقف العدوان الإسرائيلي".
وتابع ريفي: "في الوقت الذي يُطلَب فيه من لبنان تقديم تنازلات حساسة، يواصل الجيش الإسرائيلي عدوانه وغاراته الوحشية على مناطق مختلفة من الجنوب اللبناني والبقاع، من دون أي مؤشرات على التهدئة أو التراجع".
مفترق طرق
وقال المحلل السياسي طوني بولس إنّ المبعوث الأمريكي توماس باراك جاء إلى بيروت حاملاً "رسالة أمريكية واضحة لا لبس فيها".
وأوضح بولس، في تصريح لوكالة الأناضول، أن فحوى الرسالة يتمثل في أن "لبنان يقف أمام مفترق طرق حاسم: إما الانخراط في مشروع الشرق الأوسط الجديد، الذي يشهد إعادة رسم لتوازناته وتحالفاته، وإما الاستمرار في دائرة الصراعات والتراجع".
وأشار إلى أن باراك حمّل الدولة اللبنانية مسؤولية إدارة ملف السلاح، مؤكداً صراحة أن "واشنطن لن تكون مسؤولة عمّا قد تُقدِم عليه إسرائيل في حال لم يُحرَز أي تقدّم ملموس في هذا الملف".
واعتبر بولس أن "الفرصة المتاحة اليوم قد لا تتكرر، وعلى لبنان أن يحسم موقفه: إما الانخراط في مسار الاستقرار الإقليمي، وإما البقاء على هامشه في عزلة مستمرة".
وأضاف أن الموقف الأمريكي يحمل دلالة واضحة على "تراجع واشنطن عن لعب دور الراعي التقليدي للملف اللبناني، في حال لم تستجِب بيروت لإشاراتها، وهو ما يُعَدّ تفويضاً غير معلن لإسرائيل لاتخاذ خطوات أحادية في المرحلة المقبلة".
وفي 8 أكتوبر/تشرين الأول 2023 شنّت إسرائيل بدعم أمريكي عدواناً على لبنان تحوَّل في 23 سبتمبر/أيلول 2024 إلى حرب واسعة، أسفرت عن أكثر من 4 آلاف قتيل ونحو 17 ألف جريح.
وفي 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2024 بدأ سريان اتفاق لوقف لإطلاق النار بين حزب الله وإسرائيل، لكن تل أبيب خرقته أكثر من 3 آلاف مرة، ما أسفر عما لا يقل عن 235 قتيلاً و534 جريحاً، وفق بيانات رسمية.