وسط الدمار، يتحوّل البحث عن المفقودين إلى مهمة يومية محفوفة بالألم، تبدأ مع شروق الشمس، وتنتهي مع مغيبها، إذ يُضطر الأهالي إلى ترك الجثث حيث وجدوها، خوفاً من الكلاب الضالة، أو من أن تُكشف عورات الشهداء تحت جنح الليل.
يقول الشاب إسلام عبده لـTRT عربي وهو يغالب دموعه: "من القاسي أن أترك جثمانها تحت أكوام الركام. نسرين أختي، لكنها كانت أيضاً أمي الثانية ورفيقتي في الحرب والنزوح، لا يمكن للأنقاض أن تبتلع جسدها الطاهر بهذه البساطة".
حين وصل الخبر المؤكد لعائلة نسرين عبده (49 عاماً)، هرع أشقاؤها إلى مكان القصف بحثاً عن أملٍ بالحياة. لكن المنزل المؤلف من طابقين تحول إلى كومة متلاصقة من الإسمنت، ما دفع فرق الدفاع المدني لإعلان استشهاد جميع من فيه قبل الشروع في أي محاولة إنقاذ.
يشرح إسلام عن قرار البحث بين الركام: "نحن نفقد أحبابنا جملةً واحدة، بينما نعثرُ عليهم فرادى، هذا إن وجدناهم طبعاً".
ويضيف: "كرامة الأموات في دفنهم، وأقل ما نستطيع فعله هو وضعهم في قبور تحفظ أجسادهم وتُخلد أسماءهم، لكن المأساة أن كثيرين منا لا يستطيعون فعل ذلك وسط هذا الدمار الشامل في غزة".
إنه وجع يومي يعيشه الغزيون، وداع غير مكتمل، وحزن لا يجد له قبراً يضمّ من أحبّ.
مدفوعون بالحب
في فجر الاثنين 17 مارس/آذار 2025، دمّر قصف إسرائيلي منزل السيدة نسرين عبده، مخلفاً ركاماً كثيفاً وأسقفاً منهارة. وعلى الرغم من تأكيد الجيران والمارة استحالة انتشال الجثامين بسبب شدة القصف وتعقيد بنية المنزل القديمة، لم يتراجع ذوو الضحايا عن المحاولة.
يقول إسلام عبده، شقيق نسرين: "كان الانفجار عنيفاً لدرجة بدت فيها الأسقف وكأنها ارتفعت في الهواء، ثم سقطت دفعة واحدة على من كانوا تحتها، لكن الحب لعائلة أختي جعلنا نخاف على أجسادهم أكثر مما نخاف على حياتنا نحن".
ورغم تساقط المطر، والإرهاق الذي خيّم على أجسادهم بعد ستة أيام متواصلة من الحفر بأيديهم العارية، وبتجهيزات بسيطة استعانوا بها من بيوت الأقارب، لم يتخلّ أفراد العائلة عن أملهم.
"كنا نحفر مدفوعين فقط بإرادة الحب ووجع الفقد"، يضيف إسلام، مشيراً إلى أن الأمل تجدد حين تمكنوا أخيراً من انتشال الجثة الأولى، "فبُعث فينا شعورٌ بالعظمة، وكأننا أنقذنا كرامتهم من الضياع".
وبين الركام والمطر والحرب، صنع هؤلاء الصامدون من الحزن طقساً نبيلاً، اسمه الوفاء.
عائلة تعيد رسم اللحظات الأخيرة لشهدائها
بعد انتشال الجثمان الأول من تحت أنقاض منزل العائلة، بدأ فريق البحث، المؤلّف من أقارب الضحايا، في بناء سيناريوهات افتراضية للحظات الأخيرة داخل المنزل الذي يعرفون تفاصيله وتقسيم غرفه عن ظهر قلب.
يقول عبده، وقد خنق صوته الأسى، إنهم كانوا يحاولون تتبّع مواقع أفراد العائلة لحظة القصف، ويضيف: "رجّحنا أنهم كانوا يستعدون لمغادرة المنزل بعد تصاعد القصف، وكلما انتشلنا جثماناً، صار بمقدورنا تخمين موقع الشخص التالي".
وفي مساء اليوم الرابع، عثر الفريق على جثمان نسرين، الأخت الكبرى، بعدما بدأت رائحتها بالانتشار، يقول إسلام: "تتبّعنا الرائحة حتى وصلنا إليها، لكن حلول الظلام اضطرنا للمغادرة، فأعدنا ترتيب الأحجار من حولها، وغطينا وجهها بالقماش حتى لا تنهش الكلاب جسدها".
كل جثمان يُستخرج كان دافعاً للاستمرار. وما إن يظهر الجسد حتى يُنتشل بعناية باستخدام أدوات بسيطة، ويُلفّ بالكفن على الفور، حرصاً على الكرامة ودرءاً للمشهد القاسي.
يوضح إسلام: "لم نرد لأحد أن يرى أشلاءهم أو وجوههم المشوّهة. نريد أن نظل نتذكّرهم كما كانوا: وجوه حية، وضحكات محفوظة في الذاكرة".
عظام بالكيلو
في حي تل الزعتر شمالي قطاع غزة، يعيش الشاب سليم أبو غبيظ (25 عاماً) مأساة مضاعفة، إذ يجهد منذ شهور في محاولة التعرف على بقايا عظام عائلته التي دُفنت تحت أنقاض منزلهم المؤلف من خمسة طوابق، بعد أن استهدفته غارة جوية صباح الأربعاء 23 أكتوبر/تشرين الأول 2024.
كان سليم حينها نازحاً إلى جنوب القطاع، يتعافى من إصابة سابقة، ولم يتمكن من العودة إلى منزله في الوقت المناسب. يقول في حديثه لـTRT عربي: "فقدتُ 25 شخصاً من عائلتي، أمي، إخوتي الثلاثة، زوجاتهم وأطفالهم... كانوا جميعاً في غرفة واحدة، كما أخبرني الجيران، لم يكن لدي خيار سوى أن أبدأ الحفر بيديّ العاريتين وبمساعدة أدوات بسيطة استعنت بها من الأصدقاء".
ومع مرور الوقت، لم يجد سليم أجساداً كاملة، بل أجزاء متناثرة، يقول: "جمعت حتى الآن نحو 50 كيلوغراماً من العظام والجماجم، وضعتُها في كيس أسود داخل بيتي، ثم دفنتها في قبر واحد لا أعرف من يضم بداخله".
بصوت يملؤه القهر، يضيف: "لم يتركوا لي أحداً. لم أستطع أن أودّعهم كما يليق بذكرياتنا، لم أستطع أن أحتضنهم ميتين حتى. أنا أبحث عن وجهي بينهم، عن حياتي التي دُفنت مع ركامهم".
المصير ذاته
بعد استئناف الاحتلال هجماته العنيفة على شمال قطاع غزة في منتصف مارس/آذار 2025، اضطر الشاب سليم أبو غبيظ إلى مغادرة منزله الواقع في منطقة الإخلاء. حمل في قلبه القهر، وفي يديه أمانة ثقيلة: ثمانية أطفال نجوا من المجزرة، هم أبناء إخوته الشهداء، قرر أن ينقلهم إلى برّ أمان نسبي، حتى لا يذوقوا المصير نفسه الذي طمر عائلاتهم تحت الركام.
يتحدث سليم وقد أثقلته الفواجع، مشيراً إلى أن مقبرة العظام التي باتت تمتد أسفل أنقاض منزله، لم تعد مجرد ذكرى، بل كابوس يومي يطارده.
"كان العثور على الجمجمة الأولى لحظة قاسية وصادمة. وقتها فقط أدركت أنني فقدت ملامح أحبتي إلى الأبد"، يقول بصوت متهدج.
بعد تنهيدة طويلة، يسترجع سليم لحظة نادرة في بحثه بين الركام: "أدركت أنني أمسك بعظم حوض أخي زكريا. وجدت بجانبه بنطاله، وفي جيبه نقوده وبعض أوراقه. لحظة تعرّف وسط هذا الدمار".
ورغم الإصابات التي تعرض لها خلال محاولاته المتكررة للحفر تحت الأنقاض، لا يفكر سليم في التراجع. "لا أعرف كم أخرجت وكم تبقى، لكنني سأعود. أعرّض نفسي للخطر، نعم، ويتساقط الركام من حولي، لكن دافع الوفاء أقوى. أريد أن أكرّمهم بالدفن، لا أن أتركهم فريسة للتراب والضياع".
سليم ليس حالة فردية، فوفق منظمات محلية ودولية، لا يزال أكثر من 11 ألف فلسطيني مدفونين تحت أنقاض منازلهم في غزة بعد استهدافها من جيش الاحتلال الإسرائيلي.
ومع استمرار منع دخول المعدات الثقيلة، وتعطيل جهود الإنقاذ، يُجبر الأهالي على التنقيب عن أحبّتهم بأظفارهم، ليعيشوا مأساة الفقد مرتين؛ مرة تحت القصف، ومرة تحت الردم.