ووفقاً للتحقيق، نفَّذ جيش الاحتلال حملات اعتقال جماعية منذ اندلاع الحرب، شملت آلاف المدنيين، دون أن يملك جهاز الشاباك أدلة تُثبت انخراط غالبيتهم في أي نشاط مسلح أو انتماء تنظيمي. ورغم ذلك، جرى تصنيفهم بموجب قانون "المقاتلين غير الشرعيين" على أنهم "خطر على أمن الدولة"، ما أتاح احتجازهم بشكل شبه تلقائي.
التقرير يوضح أن هذه الصيغة القانونية الخاصة -المستوردة من التجربة الأمريكية في "الحرب على الإرهاب"- تتيح اعتقال المدنيين دون محاكمة، بحجة أنهم "لا ينتمون إلى جيوش نظامية".
وقد جرى توسيع استخدام القانون خلال الحرب الأخيرة على غزة بصورة غير مسبوقة، ما منح جيش الاحتلال الإسرائيلي غطاءً قانونياً هشاً لاحتجاز الآلاف.
حسب "Ha-Makom"، اعتقل الاحتلال 5933 فلسطينياً من قطاع غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023. ومن هؤلاء، جرى الإفراج عن 2549 شخصاً بمبادرة مباشرة من الجيش والشاباك، دون تقديم لوائح اتهام أو حتى فتح ملفات تحقيق. كما أُطلق سراح 1050 معتقلاً آخر ضمن صفقة تبادل أسرى أُبرمت في يناير/كانون الثاني 2024، معظمهم كانوا محتجزين بذات التصنيف القانوني.
تشير البيانات التي حصل عليها الموقع، إلى أن جميع النساء والأطفال دون سن 19 عاماً الذين لم يُشاركوا في اقتحام مستوطنات 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، شملهم الإفراج خلال الصفقة. ومع ذلك، استمرت الاعتقالات الجماعية لاحقاً، واستهدفت نساءً وقاصرين جدداً، في سياسةٍ وصفها التقرير بأنها دوامة اعتقال وإفراج ذات طابع سياسي.
حتى مارس/آذار 2025، كان 2790 معتقلاً من غزة لا يزالون قيد الاحتجاز داخل منشآت عسكرية وسجون إسرائيلية، من بينهم 660 شخصاً في معسكرات مثل سديه تيمان، وعوفر، ونفتالي. وتشمل القائمة معتقلة واحدة وأربعة قاصرين أعمارهم بين 16 و18 عاماً، وفق بيانات رسمية نقلها "Ha-Makom" عن مصلحة السجون الإسرائيلية.
يرى التقرير أن هذا النمط من الاعتقالات الجماعية يتجاوز الأبعاد الأمنية، ليشكّل أداة ضغط سياسية بيد إسرائيل تُستخدم في صفقات تبادل مستقبلية. ويؤكد أن المعلومات حول المعتقلين تُقدَّم للمحكمة العليا بشكل جزئي وغير شفاف، في ظل غياب أي رقابة جدّية على دوافع الاعتقال أو ظروف الاحتجاز.
وفي سابقة خطيرة، كشف "Ha-Makom" عن أن الحكومة الإسرائيلية عدّلت قانون "المقاتلين غير الشرعيين" في بداية الحرب، لتسمح باحتجاز أي فلسطيني لمدة تصل إلى 75 يوماً دون عرض على قاضٍ، ودون تمكينه من الاتصال بمحامٍ أو معرفة التهم الموجهة إليه.
هذا التعديل، حسب التقرير، لا يُطبق على أسرى حماس "المصنفين إرهابيين"، بل يستهدف عموم المدنيين الذين يُحتجزون تحت مظلة "غير النظاميين". الأخطر أن القانون الحالي يمنح ضابطاً برتبة رائد صلاحية توقيف أي شخص بشكل منفرد، لمدة 30 يوماً دون أي رقابة، فقط لأن "الاشتباه يقتضي ذلك".
وبموجب الإجراءات الجديدة، يُمكن تمديد فترة الاعتقال إلى 45 يوماً دون قاضٍ، ثم إجراء جلسة محاكمة عبر الهاتف -لا تتجاوز دقائق- يُقرر خلالها قاضٍ تمديد الاعتقال حتى 180 يوماً قابلة للتجديد كل أربعة أشهر. كل ذلك يحدث دون توجيه تهمة أو فتح ملف قانوني حقيقي، فيما يظل المعتقل معزولاً عن العالم، ومحروماً من أي حق في الطعن أو الدفاع عن نفسه.
آلية أسوأ من الاعتقال الإداري
وأظهر تحقيق صحفي أن إسرائيل تعتمد، في تعاملها مع المعتقلين الفلسطينيين من قطاع غزة خلال الحرب الجارية، آلية احتجاز تتجاوز في تعسفها وقسوتها ما يُعرف بـ"الاعتقال الإداري". إذ لا تقوم هذه الاعتقالات على أدلة قانونية أو لوائح اتهام محددة، بل توصف من قبل معتقلين سابقين بأنها "عمليات عشوائية أقرب إلى صيد أعمى"، يُحتجز فيها الأشخاص أملاً في الحصول على معلومات محتملة.
التقرير يوضح أن كثيراً من المعتقلين لم تُوجّه إليهم اتهامات فعلية، بل اقتصر الاشتباه على وجودهم في مناطق قُصفت أو شهدت اشتباكات. في بعض الحالات، جرى اقتياد أطباء من داخل المستشفيات، وتُركّز التحقيقات معهم على شبهات تتعلّق بمعالجة المحتجزين.
وفي شهادة لافتة، نقلها “Ha-Makom” عن الطبيب العسكري الإسرائيلي يوئيل دونحين، الذي خدم في معتقل سديه تيمان، عبّر عن صدمته من الاعتقالات العشوائية قائلاً: "كثيرون ممن عالجتهم لم أفهم لماذا جرى إحضارهم إلى هنا".
وأضاف: "أحد المعتقلين كان مشلولاً بالكامل، وآخر يزن أكثر من 300 كيلوغرام، وثالث يتنفس عبر أنبوب جراحي منذ الطفولة. لا أعرف لماذا أحضروهم… إنهم يأخذون الجميع".
آلاف المعتقلين أُفرج عنهم دون عرضهم على قاضٍ
في وثيقة ردّ قُدّمت إلى المحكمة العليا الإسرائيلية، اعترفت الدولة بأن نحو 1950 معتقلاً فلسطينياً قد أُفرِج عنهم دون أن يُعرضوا على قاضٍ، في مخالفة صريحة للإجراءات القضائية.
وحسب تحقيق نشره موقع “Ha-Makom”، فإن هذه الممارسة تطرح احتمالين: إما أن جيش الاحتلال الإسرائيلي يفرض داخلياً رقابة قانونية أكبر من تلك التي يمارسها الجهاز القضائي المدني، وإما أن النقص الحاد في أماكن الاحتجاز هو ما دفع إلى الإفراج العشوائي.
يكشف موقع “Ha-Makom” عن احتمال ثالث أكثر خطورة، وهو أن الجيش الإسرائيلي لم يعد يسيطر على عدد المعتقلين فعلياً، ولا يدير سجلات موحدة ومنظمة لمن جرى اعتقالهم ومن لم يُعتقل.
وقد رصد "مركز الدفاع عن الفرد" نحو 400 حالة اختفاء لمعتقلين من غزة، تؤكد الشهادات أنهم اعتُقلوا، فيما ينفي الجيش وجود "أي مؤشرات" على اعتقالهم، ما يعزز المخاوف من حالات اختفاء قسري ممنهج. وقد فشلت حتى الالتماسات المقدّمة إلى المحكمة العليا في الكشف عن مصيرهم.
من بين هذه الحالات الموثقة، حادثة اختفاء رجل فلسطيني وابنته البالغة من العمر خمس سنوات، بعد اقتحام منزلهما الكائن خلف مستشفى الشفاء في غزة.
وحسب إفادة الأم لـ"مركز الدفاع عن الفرد"، التي وثّقها موقع “Ha-Makom”، فقد أمرها الجنود بالمغادرة جنوباً، وأخبروها بأنهم سيعتنون بابنتها، فيما اقتادوا الزوج للاستجواب.
وبعد أسبوعين، قُصف المنزل ولم يُعثَر على جثث، فيما اختفى الأب والطفلة دون أي أثر. شهود عيان أكدوا رؤيتهم للرجل في سجن كتسيعوت، لكنَّ الجيش يُنكر معرفته بمصيره، ولم تُفلح جهود العائلة في الحصول على أي معلومة عنهما.
في واقعة نشرها “Ha-Makom”، زعم جيش الاحتلال الإسرائيلي عدم وجود "أي مؤشرات" على اعتقال فلسطيني من غزة. لكن بعد ثلاثة أشهر، عاد الرجل فجأة إلى منزله، ليتبيّن لاحقاً أنه كان محتجزاً طوال هذه الفترة داخل قطاع غزة نفسه، في معتقل سرِّي تابع للجيش، وليس في منشأة احتجاز داخل إسرائيل.
تثير هذه الحادثة تساؤلات خطيرة حول البنية القانونية لسياسة الاعتقال، واحتمالات وجود مراكز احتجاز غير معلنة خارج الرقابة القضائية والمدنية.
ردّ المحكمة العليا على الالتماس ضد قانون "المقاتلين غير الشرعيين"
في جلستَي المحكمة العليا اللتين نُظمتا حتى الآن، أظهر القضاة موقفاً متساهلاً نسبياً تجاه التعديلات التي أُدخلت على القانون، وعدُّوها "ضرورية" في ظل ما وصفوها بالظروف الاستثنائية بعد أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
وبفضل الالتماس الذي قدمته منظمات حقوق الإنسان، بدأت حكومة الاحتلال بالكشف التدريجي عن بعض البيانات المتعلقة بحالات الاعتقال والإفراجات الجماعية. ومع ذلك، لا تزال التفاصيل الأساسية مثل: أسماء المعتقلين، وأعمارهم، ومدة احتجازهم، أو حتى ما إذا كانت هناك ملفات تحقيق مفتوحة بحقهم، غير معلنة.
قضاة المحكمة العليا أظهروا، وفق موقع “Ha-Makom”، لا مبالاة إزاء مسألة الاعتقالات الجماعية المتواصلة، دون أن يطرحوا السؤال الجوهري: هل هذه الاعتقالات قانونية أم أنها سياسية أو تعسفية؟ التركيز انحصر في نقطة وحيدة: طول الفترة الزمنية التي يُمنع فيها المعتقل من المثول أمام قاضٍ، يكون بناءً على افتراض غير واقعي أن هذا المثول سيُفضي إلى مراجعة حقيقية لمشروعية الاعتقال.
يشير تقرير “Ha-Makom” إلى أن الجلسات التي تُعقد في المحكمة المركزية ببئر السبع، التي يُفترض أن تراجِع قانونية الاعتقال، لا تتعدى الدقيقتين، وغالباً ما تكون مغلقة، دون محامين أو مرافعة حقيقية. حتى مَن يحظى بتمثيل قانوني -وغالبيتهم من أصحاب العلاقات- لا يستفيد فعلياً من ذلك بسبب طابع الجلسات الصوري.