وفي قلب هذا الجدل، يبرز سؤال أساسي: أين اختفى مخزون إيران من اليورانيوم المخصب بنسبة 60%؟ وهي نسبة تقترب كثيراً من الحد اللازم لإنتاج أسلحة نووية.
تشير تقديرات الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى أن إيران كانت تملك قبل الضربات نحو 408.6 كجم من هذا النوع من اليورانيوم، وهو ما يكفي نظرياً لإنتاج ما يزيد على تسع قنابل نووية إذا خضع لعملية تخصيب إضافية، ويعود آخر رصد مؤكد لهذا المخزون إلى 10 يونيو/حزيران، ما يزيد حالة الغموض.
في تصريح إعلامي أكد جاي دي فانس نائب الرئيس الأمريكي أن بلاده تنوي اتخاذ إجراءات بشأن الوقود النووي الإيراني خلال الأسابيع المقبلة، موضحاً أن واشنطن ستفتح قنوات تواصل مع طهران بهذا الشأن.
وأضاف فانس أن إيران لم تعُد قادرة على تحويل مخزونها الحالي إلى يورانيوم بدرجة تصنيع أسلحة، وهو ما اعتبره أحد أبرز إنجازات الضربات الأخيرة.
من ناحيته أعرب الكرملين عن تحفُّظه، مؤكداً أن "المعطيات المؤكدة بشأن حجم الضرر لا تزال محدودة للغاية".
المدير العامّ للوكالة الدولية للطاقة الذرية رافائيل غروسي دعا طهران إلى إعادة فتح منشآتها النووية أمام المفتشين، مشدداً على أهمية التحقق من مصير المواد النووية الحساسة.
وتزامنت دعوته مع تقارير تشير إلى أن إيران اتخذت "تدابير خاصة" لحماية معداتها النووية مع بدء الهجوم الإسرائيلي يوم 13 يونيو/حزيران، بحسب رسالة أرسلها وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي إلى الوكالة.
وفي تطور ميداني لافت، رصدت الأقمار الصناعية تحركات لافتة لمركبات قرب منشأة فوردو النووية قبل أيام قليلة من الضربات الأمريكية.
وعلّق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بأن لدى بلاده "معلومات استخباراتية مهمة" تتعلق بالمنشأة، دون الخوض في التفاصيل.
لاحقاً أعلنت إسرائيل أنها استهدفت الطرق المؤدية إلى فوردو ضمن عمليات تهدف إلى منع الوصول إلى الموقع أو تهريب المواد الحساسة.
من جهتها قالت كيلسي دافنبورت، وهي باحثة متخصصة في منع الانتشار النووي، إن تحديد موقع مخزون اليورانيوم الإيراني سيكون تحدياً معقداً، لإمكانية نقله بسهولة داخل حاويات صغيرة بواسطة المركبات.
وفي الوقت الذي تؤكد فيه الإدارة الأمريكية فقدان إيران قدرتها التقنية على تحويل هذا اليورانيوم إلى مستوى تسليحي، يتواصل التركيز السياسي والأمني على ما تبقى من قدرات نووية لدى طهران، وسط تأكيدات بأن القضية ستظل حاضرة في المشهد خلال الفترة المقبلة.
الضربات أضعفت القدرات التقنية.. لكنها لم تُنهِها
قبل تنفيذ الضربات الأخيرة كانت إيران تملك نحو 22,000 جهاز طرد مركزي، وهي المعدات الأساسية لتخصيب اليورانيوم.
ووفقاً لما أعلنه مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية رافائيل غروسي، فإن الهجوم على منشأة نطنز ألحق أضراراً كبيرة بعدد من هذه الأجهزة.
وأضاف أن منشأة فوردو أيضاً يُرجَّح أنها تعرضت لـ"أضرار جسيمة للغاية"، لشدة التفجيرات وتأثُّر أجهزة الطرد المركزي بالاهتزازات العالية.
مع ذلك تبقى الصورة غير مكتملة، فعدد أجهزة الطرد المركزي التي لا تزال صالحة للعمل غير معروف بدقة، كما يُعتقد أن إيران خزنت عدداً منها في مواقع غير معلنة يصعب الوصول إليها أو التحقق منها دولياً.
وفي هذا السياق قالت الخبيرة في شؤون الحدّ من التسلح كيلسي دافنبورت، إن امتلاك إيران مخزوناً من اليورانيوم المخصب بنسبة 60%، إلى جانب احتفاظها ببعض الأجهزة المتطورة، يعني أن القدرة الفنية على إنتاج قنبلة نووية لا تزال قائمة، بل إن الظروف السياسية الحالية قد توفر حافزاً إضافياً لتسريع هذا المسار.
نقل اليورانيوم الإيراني قبل الضربات الأمريكية
أثار عدد من الخبراء مخاوف جدية من أن إيران ربما نقلت، قُبيل الضربات الجوية الأمريكية، جزءاً كبيراً من مخزونها من اليورانيوم عالي التخصيب (المخصب بنسبة 60% والقريب من درجة تصنيع الأسلحة) إلى مواقع سرّية لا تعرفها إسرائيل أو الولايات المتحدة أو حتى لمفتشي الأمم المتحدة.
وتستند هذه المخاوف إلى صور التقطتها الأقمار الصناعية لشركة ماكسار تكنولوجيز يومي الخميس والجمعة، أي قبل الضربات بيومين، وتُظهِر ما وُصف بـ"نشاط غير اعتيادي" عند مدخل منشأة فوردو النووية، مع عدد كبير من المركبات المتوقفة، ما يُشير إلى احتمال تنفيذ عمليات نقل.
ونقلت وكالة رويترز عن مصدر إيراني رفيع يوم الأحد تأكيده أن الجزء الأكبر من اليورانيوم المخصب بنسبة 60% قد نُقل من فوردو قبل بدء الهجوم الأمريكي.
في السياق ذاته حذّر جيفري لويس، الباحث في معهد ميدلبري للدراسات الدولية، قائلاً: "لا أعتقد أن بوسع أي جهة أن توقف البرنامج النووي الإيراني كلياً. ما يمكن تحقيقه هو تأخير محدود لبضع سنوات، من شبه المؤكد أن هناك منشآت لم تُكتشف بعد".
وأبدى مارك كيلي عضو مجلس الشيوخ عن ولاية أريزونا وعضو لجنة الاستخبارات، مخاوف مشابهة، مؤكداً لشبكة NBC News أن "أكبر ما يقلقني حاليّاً هو احتمال أن إيران قد تُخفِي برنامجها النووي بالكامل، ليس فقط تحت الأرض، بل بعيداً عن أعين المجتمع الدولي، وقد تؤدّي محاولات عرقلة البرنامج إلى تسريعه بدلاً من وقفه".
ورغم هذه التحذيرات، تواصل إيران تأكيدها أن برنامجها النووي مخصص لأغراض سلمية بحتة، في موقف ثابت تنفي فيه السعي لامتلاك سلاح نووي.
انهيار نظام منع الانتشار النووي
قُبيل تصاعد التوترات العسكرية كانت الوكالة الدولية للطاقة الذرية تؤكد أنها لم تجد أدلة على وجود "برنامج منهجي" في إيران يهدف إلى إنتاج أسلحة نووية. غير أن غياب الوصول الميداني إلى المواقع النووية منذ اندلاع النزاع جعل من المستحيل على الوكالة مواصلة مهامّ الرقابة والتفتيش.
وفي تحذير صارم أطلقه يوم الاثنين، نبّه المدير العامّ للوكالة رافائيل غروسي إلى أن النظام العالمي لمنع انتشار الأسلحة النووية، الذي يشكّل إحدى ركائز الأمن الدولي منذ عقود، بات مهدداً بالانهيار، داعياً إلى استئناف المسار الدبلوماسي وتفادي التصعيد.
إيران، التي صدّقَت على معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية (NPT) في عام 1970، ملزمة قانوناً الكشف عن جميع أنشطتها النووية للوكالة، غير أن طهران بدأت مؤخراً تلوّح بإمكانية الانسحاب من المعاهدة، متهمة الوكالة الدولية بأنها انحازت إلى جانب إسرائيل وتتصرف كشريك في ما وصفته بـ"حرب عدوانية".
في هذا السياق صرّح ممثل إيران لدى الوكالة رضا نجفي، بأن "العدوان غير القانوني الذي شنّته الولايات المتحدة وجّه ضربة جوهرية لا يمكن إصلاحها إلى نظام منع الانتشار".
من جانبه حذّر إريك بروير، الباحث في "مبادرة التهديد النووي" (NTI)، وهي مؤسسة بحثية أمريكية معنية بالأمن النووي، من أن "إيران قد تتخذ خطوات دراماتيكية، مثل الانسحاب من معاهدة عدم الانتشار، أو طرد المفتشين الدوليين، أو ببساطة منعهم من الوصول إلى مواقع حساسة".
وأضاف بروير أن السيناريو الأخطر يتمثل في احتمال أن تشرع طهران تدريجياً في بناء برنامج نووي سري، كما فعلت كوريا الشمالية التي انسحبت من المعاهدة عام 2003، ثم تحوّلت لاحقاً إلى دولة نووية.