في مشهد لا يخلو من المفارقة، تبتسم الطالبة الجامعية فاطمة فقيه (19 عاماً) وهي تستقل حافلة نقل عام حديثة عند الواجهة البحرية لبيروت، مدينة اعتادت ازدحام السيارات واختناق الهواء، حيث تحاول السلطات اللبنانية إعادة إحياء قطاع النقل الجماعي بعد عقود من الإهمال، وفي خضم أزمة اقتصادية واجتماعية خانقة.
تقول فاطمة، وهي واحدة من الجيل الذي نشأ في غياب النقل العام الرسمي: "الحافلات الجديدة أكثر أماناً وراحة، ولا أحتاج حتى إلى حمل المال لأن لدي بطاقة خاصة بها".
تصف تجربتها على متن الحافلات الجديدة بوصفها "تحولاً حقيقياً"، مقارنة بالحافلات الخاصة غير المنظمة التي تغزو شوارع العاصمة وتفتقر إلى شروط السلامة.
وشهدت سوق السيارات في لبنان نمواً واسعاً في غياب منظومة نقل عام فاعلة، إلى أن تفجرت الأزمة الاقتصادية في عام 2019، التي رفعت أسعار المحروقات بشكل كبير وقلصت القدرة الشرائية للمواطنين، ما أعاد الحديث عن ضرورة تطوير وسائل النقل الجماعي.
بحسب البنك الدولي، ارتفعت نسبة الفقر في لبنان إلى 44%، أي ما يعادل ثلاثة أضعاف خلال عقد، ما يزيد الحاجة إلى خيارات نقل ميسّرة ومنخفضة الكلفة.
وانطلقت الشبكة الجديدة للحافلات العامة رسمياً في يوليو/تموز 2023، إذ بدأت بتسيير 11 خطاً داخل بيروت، يصل بعضها إلى مناطق في الشمال والجنوب والبقاع، بالتعاون مع شركة خاصة.
وجرى تزويد الحافلات بكاميرات مراقبة ونظام تتبع عبر الأقمار الصناعية (GPS)، وتبدأ تعرفة الركوب من نحو 70 ألف ليرة لبنانية (قرابة 80 سنتاً)، ويمكن دفعها نقداً أو عبر بطاقات خاصة.
يقول بعض الركاب إنّ الحافلات ساعدتهم في تقليل النفقات اليومية وخفّفت التوتر المرتبط بزحمة السير ورداءة الطرق، لا سيما في ظل ضعف التزام قوانين المرور.
لكن المشروع لم يخلُ من التحديات، إذ توقف العمل في بعض الخطوط بعد تصاعد المواجهات بين حزب الله وإسرائيل في الجنوب اللبناني، كما واجهت الحافلات الجديدة اعتراضات من أصحاب الحافلات الخاصة، وصلت إلى حدّ التعدي الجسدي وتكسير بعض المركبات خوفاً من فقدان مصادر دخلهم.
ورغم هذه العقبات، تبدو التجربة الجديدة خطوة أولى في مسار طويل لاستعادة مفهوم النقل العام في لبنان، وإن بقيت محاطة بأسئلة كثيرة حول الاستدامة، والدعم الرسمي، ومدى تقبّل المجتمع لهذه النقلة.
حافلات نحو المطار
للمرة الأولى، يصعد علي داوود (76 عاماً) إلى إحدى الحافلات العامة الجديدة في بيروت، ويعبّر عن إعجابه قائلاً: "جميل جداً، ثمّة ترتيب وتنظيم… أعجبني الأمر كثيراً".
يتذكر داوود زمن القطارات والحافلات العامة التي كانت تجوب العاصمة اللبنانية، لكنه يرى في التجربة الجديدة نقلة نوعية: "الحافلة الجديدة أفضل بكثير".
اليوم، يستخدم نحو 4500 راكب شبكة النقل العام الحكومي يومياً، بعدما كان العدد لا يتجاوز بضع مئات عند انطلاق المشروع، بحسب المدير العام لمصلحة السكك الحديد والنقل المشترك، زياد نصر.
ويؤكد نصر أن الخطة تشمل توسيع خطوط الحافلات لتصل إلى مطار بيروت، مشيراً إلى حاجة المشروع إلى الدعم الخارجي: "نحن منفتحون لأي دعم، سواء من الدول العربية، أو فرنسا، أو حتى الصين".
وقد تبرعت فرنسا بنحو نصف أسطول الحافلات المستخدم حالياً، الذي يبلغ نحو 100 حافلة.
لكن هذه المبادرة لا تخلو من التحديات. الخبير في قطاع النقل، تمام نقاش، وصف المشروع بأنه "بداية جيدة"، لكنه أعرب عن مخاوفه من الضغوط التي يواجهها، بما في ذلك المنافسة من القطاع الخاص.
ورغم أن تعرفة الحافلات الخاصة والحافلات الصغيرة تكاد تقارب تكلفة الحافلات العامة، فإنها أكثر عدداً ومرونة في التوقف، ما يجعلها الخيار المفضل لكثيرين، إلا أن معظم هذه الحافلات يفتقر إلى الصيانة، ويعاني من الازدحام وتجاهل معايير السلامة.
في موازاة ذلك، تنتشر سيارات الأجرة المشتركة، التي تبدأ تعرفة الركوب فيها من نحو دولارين، إضافة إلى خدمات النقل عبر التطبيقات مثل أوبر وغيره، التي تُستخدم على نطاق واسع في بيروت، لكنها تبقى أغلى من أن يتحملها أصحاب الدخل المحدود.
وتشير الإحصاءات الرسمية إلى وجود أكثر من مليونَي مركبة مسجلة.
وسط هذه المنافسة الشرسة، يبقى نجاح شبكة النقل العام مرهوناً باستمرارية الدعم، وتحقيق نقلة في ثقافة النقل الجماعي، خصوصاً في بلد يُصنَّف ثاني أكبر ملوِّث للهواء في المنطقة، بحسب تقارير بيئية دولية.
بين الضرورة البيئية والتردد المجتمعي
رغم ترحيبه بمبادرة تشغيل الحافلات العامة، لا يزال الطالب دانييل عماد (19 عاماً) يفضّل سيارات الأجرة العمومية وسيلة للتنقل، مبرّراً ذلك بسهولة الوصول والسعر المقبول. ويقول: "إذا لم يكن لدى الشخص وسيلة نقل، يمكنه أن يذهب إلى أي مكان يريد بسعر زهيد عبر السيارات العمومية".
لكن إطلاق شبكة النقل العام في لبنان يحمل بُعداً يتجاوز المسائل الاقتصادية واللوجستية، إذ يُنظر إليه بشكل متزايد كخطوة بيئية ضرورية في بلد يعاني من مستويات مرتفعة من التلوث الحضري، خصوصاً في العاصمة بيروت.
ووفقاً لتقرير حديث للبنك الدولي حول المناخ والتنمية في لبنان، فإن قطاع النقل يُعَدّ ثاني أكبر مصدر لانبعاثات الغازات الدفيئة في البلاد، متسبباً بنحو ربع مجمل الانبعاثات، بعد قطاع الطاقة المتدهور الذي يعتمد إلى حد كبير على المولدات الخاصة بسبب الانقطاع المزمن للتيار الكهربائي.
وفي هذا السياق بدأت تظهر مبادرات خضراء محلية، منها تجربة مدينة زحلة شرقي البلاد التي أطلقت أربع حافلات هجينة تعمل بالوقود والكهرباء.
كما يجري العمل على خطة لإطلاق أربع حافلات كهربائية بالكامل تعمل بالطاقة الشمسية، ستربط بيروت بمدينة جبيل شمالًا، بحسب نبيل منيمنة، مدير مشروع النقل المستدام في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي.
من جهتها، تدعو الطالبة الجامعية فاطمة فقيه إلى تبنّي النقل العام خياراً واعياً بيئياً، قائلة: "كل شخص أراه يستقل حافلة خاصة، أنصحه باستخدام النقل المشترك… ليس فقط لأنه أفضل، بل لأننا نحتاج إلى الحفاظ على البيئة".
وتضيف: "نحن لا نتحدث عن هذا كثيراً، لكنه مهم جداً، خصوصاً مع ازدحام المرور في بيروت"، متسائلة: "إلى أي مدى يمكننا تقليل حركة المرور إذا استخدمنا جميعاً وسائل النقل العام؟".