مع حلول الذكرى السنوية الخامسة والسبعين لـ"اليوم العالمي لحقوق الإنسان"، الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1948، تواصل إسرائيل انتهاكاتها ضد الفلسطينيين، خصوصاً حرب الإبادة الجماعية التي تمارسها بدعم الدول الغربية في قطاع غزة، الذي تحوَّل إلى مقبرة كبرى، معظم قتلاها من الأطفال بفعل الجرائم الإسرائيلية.
تُصر إسرائيل وأمام أعين المجتمع الدولي على ارتكاب الفظائع الوحشية والمجازر وجرائم الحرب كافة ضد الأبرياء في غزة للشهر الثالث على التوالي، ضاربة عُرض الحائط بكل القيم الأخلاقية والقوانين الإنسانية التي تحرّم المساس بالإنسان أينما وُجد في هذا العالم.
منذ بدء هجومها على قطاع غزة في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ارتكبت إسرائيل الفظائع الوحشية وجرائم الحرب كافة ضد الغزّاويين دون تمييز بين رجال ونساء وأطفال، فقد استخدمت أساليب القصف العشوائي والإبادة الجماعية للأحياء، فضلاً عن استخدامها أسلحة محرّمة دوليّاً، إضافة إلى قصف متعمَّد للمشافي والمدارس والتجمّعات السكنية، بما فيها مراكز أممية مكتظة بآلاف النازحين.
جرائم حرب
لجأت إسرائيل إلى استخدام أسلحة محرّمة دوليّاً في حرب الإبادة التي تمارسها في قطاع غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، لقتل وتهجير أكبر عدد من سكان القطاع، البالغ عددهم نحو مليوني شخص.
منظمة "هيومن رايتس ووتش" أكدت في تقرير سابق لها أن الجيش الإسرائيلي "يستخدم في حربه على غزة أسلحة محرّمة دوليّاً مثل: الفوسفور الأبيض، والقنابل العنقودية، والقنابل الغبية (قنابل غير موجّهة)"، إلى جانب الترسانة الهائلة من الأسلحة التي يستخدمها في تلك الهجمات.
كان لافتاً تعمُّد إسرائيل استهداف المشافي وفرق الإسعاف في غزة خلال حربها المستمرة منذ شهرين، وكذلك استهداف المرضى والكوادر الطبية بعد اقتحام المشافي وحصارها وإخراج معظمها من الخدمة، مثل مجمع الشفاء الطبي، ومستشفيي "اليمن السعيد" و"العودة" اللذين يخضعان لحصار إسرائيلي بدأ منذ أيام.
وأعلنت منظمة الصحة العالمية، أمس السبت، مقتل اثنين من أفراد الطاقم الطبي، إضافة إلى مقتل وإصابة عدد من النساء الحوامل في مستشفى العودة شمال قطاع غزة برصاص الجيش الإسرائيلي الذي يحاصر المستشفى.
استهداف المشافي واقتحامها فاقم الأزمة الإنسانية في القطاع، وأسهم في ارتفاع أعداد الضحايا، خصوصاً بعد إعلان وزارة الصحة الفلسطينية مؤخراً خروج مستشفيات شمال القطاع من الخدمة بسبب الاستهداف الإسرائيلي والحصار الخانق.
الجرائم الوحشية التي ترتكبها إسرائيل تجاه الفلسطينيين، دفعت الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، إلى تفعيل المادة رقم 99 من ميثاق الأمم المتحدة، لوصف الوضع في قطاع غزة وإسرائيل باعتباره "تهديداً للسلم والأمن الدوليين".
وصلت الانتهاكات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في غزة إلى منع دخول قوافل المساعدات الإنسانية إلى أهالي القطاع، طبية كانت أو غذائية، بهدف حرمان أهل غزة من أبسط مقومات الحياة، التي تكفلها القوانين الدولية، لتجبرهم على الموت بالوسائل الإجرامية كالجوع والعطش والمرض أو نتيجة الأمراض والأوبئة.
أبرز تلك الانتهاكات كانت باستهداف الجيش الإسرائيلي قافلة مساعدات تابعة للجنة الدولية للصليب الأحمر، كانت تحمل إمدادات طبية متجهة إلى مرافق صحية، منها مستشفى القدس، وأسفر الاعتداء عن أضرار بالشاحنات وإصابة أحد السائقين.
وقالت اللجنة الدولية على منصة "إكس" حينها إنها "تشجب وتستنكر إطلاق النار على قافلتها الإنسانية في غزة"، وطالبت "بالتزام احترام العاملين في المجال الإنساني وحمايتهم في جميع الأوقات بموجب القانون الدولي الإنساني".
تجاوزت حصيلة قتلى الهجمات الإسرائيلية على قطاع غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، 17 ألفاً و700، فضلاً عن إصابة 48 ألفاً و780 آخرين، فضلاً عن دمار هائل في البنية التحتية و"كارثة إنسانية غير مسبوقة"، حسب وزارة الصحة في القطاع.
لكن الأعداد الكبيرة للضحايا من الأطفال جراء الهجمات الإسرائيلية على غزة، دفعت الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، إلى التحذير من تحول القطاع إلى "مقبرة للأطفال"، بسبب القصف المكثف والحصار الخانق الذي تفرضه إسرائيل على المدنيين، مضيفاً: "دون وقود، سيموت الأطفال حديثو الولادة والمرضى المعتمدون على أجهزة الإنعاش".
وحسب "المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان" فقد بلغ إجمالي عدد الأطفال ضحايا جريمة الإبادة الجماعية التي تمارسها إسرائيل في القطاع، نحو 700 ألف طفل ما بين قتيل ومصاب ومشرَّد، في ظل وجود مئات الأطفال تحت الأنقاض، وتضاؤل فرص نجاتهم بسبب تعذر انتشالهم منذ أسابيع.
وأسفرت حرب الإبادة الإسرائيلية على القطاع عن تدمير أو تضرر منازل نحو 640 ألفاً من السكان، فيما دفعت مليوناً و840 ألف شخص للنزوح داخليّاً والإقامة مع أطفالهم في مراكز غير مخصصة أو غير مناسبة للإيواء، فضلاً عن تدمير وتضرر أكثر من 217 مدرسة في مختلف أنحاء القطاع نتيجة الهجمات الإسرائيلية، ما يجعل مستقبل آلاف الأطفال مجهولاً بسبب انقطاعهم عن التعليم بالمراحل الدراسية كافة.
انتهاكات في الضفة الغربية والقدس
لم تكن القدس والضفة الغربية بمعزل عن الانتهاكات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين رغم المطالبات الدولية بوقف تلك الانتهاكات التي يُصنَّف بعضها جرائم حرب، ولا سيما إعدام أطفال خلال عمليات اقتحام بمناطق متفرقة من الضفة.
وفقاً لتقرير صادر عن محافظة القدس، يحصي الانتهاكات الإسرائيلية بحق المدينة وسكانها الفلسطينيين خلال نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، فإن 14 شخصاً قُتلوا، بينهم 4 أطفال، فضلاً عن أسير مقدسي محرَّر ومبعد إلى قطاع غزة، إضافة إلى "احتجاز جثامين 34 شهيداً مقدسيّاً في الثلاجات ومقابر الأرقام".
وحسب وزارة الصحة الفلسطينية، فإن حصيلة القتلى الفلسطينيين بلغت نحو 300 شخص، بينهم أطفال، بنيران الجيش الإسرائيلي أو المستوطنين في مناطق مختلفة من الضفة الغربية، منذ بدء الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة.
اعتداءات المستوطنين المتكررة تجاه سكان الضفة الغربية، خصوصاً الهجوم على بلدة قراوة بني حسان ومقتل فلسطيني على الأقل، دفعت فرنسا، أبرز حلفاء إسرائيل، إلى إدانة تلك "الاعتداءات"، وأكدت وزارة الخارجية الفرنسية، في بيان الثلاثاء الماضي، أن هذه الهجمات "لا يمكن قبولها".
هل يمكن محاسبة إسرائيل على جرائمها؟
تحظى إسرائيل بدعم أمريكي وغربي غير محدود، يشجعها على التمادي في جرائمها بحق الفلسطينيين، خصوصاً في قطاع غزة، ولا سيما الدعم العسكري الأمريكي لإسرائيل، وكذلك حمايتها داخل مجلس الأمن الدولي من أي محاسبة على جميع جرائمها وانتهاكاتها.
قبل يومين، صوّت 13 من أعضاء مجلس الأمن لصالح مشروع قرار يدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة لأسباب إنسانية، لكن واشنطن استخدمت حق النقض (فيتو) ضد مشروع القرار، دعماً لحليفتها تل أبيب، بينما امتنعت بريطانيا عن التصويت.
لكن ورغم الحصانة الأمريكية لإسرائيل في مجلس الأمن الدولي، فإن فرص محاسبة المسؤولين الإسرائيليين عن جرائمهم تجاه الفلسطينيين ما زالت قائمة عبر طريقين قضائيّين يتمتعان بقابلية التحقُّق وفرصة محاسبة مسؤولين إسرائيليين على احتمال ارتكابهم جرائم دولية، حسب الكاتب والحقوقي حسام القطلبي.
ويوضح القطلبي في حديثه لـTRT عربي أن الطريق الأول لمحاسبة المسؤولين الإسرائيليين هو "اللجوء إلى محاكم محلية في دول يمتلك جهازها القضائي ولاية قضائية عالمية في حال كان الضحية يحمل جنسية هذه الدولة أو كان الجاني المحتمل موجوداً على أراضي الدولة المعنية".
ويشير الكاتب الحقوقي إلى أن ذلك الطريق ليس جديداً كُليّاً، إذ سبق أن لجأ إليه عام 2001 ضحايا وذوو ضحايا لبنانيين وفلسطينيين لملاحقة رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق أرييل شارون أمام محاكم محلية بلجيكية بتهمة المشاركة في مجازر صبرا وشاتيلا، وجرى قبول الدعوى بالفعل قبل أن يُعدَّل القانون البلجيكي بعد ضغوط أمريكية كبرى وصلت إلى حد تهديد بلجيكا بإخراج مكاتب وعمليات حلف شمال الأطلسي من أراضيها.
وفي هذا السياق، فإن أطرافاً دولية وحقوقية تعمل بجهود حثيثة لمحاسبة المسؤولين الإسرائيليين عن الجرائم والانتهاكات تجاه الفلسطينيين، بعيداً عن مجلس الأمن الدولي، وازدواجية المعايير التي ينتهجها.
أبرز تلك الجهود تمثلت في إعلان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في 18 من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، عزم بلاده تقديم شكوى إلى الجهات المعنية ضد المجازر الإسرائيلية في غزة، بالتعاون مع أكثر من ألفَي مُحامٍ. وقال أردوغان حينها: "لو أن دولة مسلمة ارتكبت جرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل لتدخَّل القضاء الدولي على الفور دون الحاجة إلى جهود خاصة".
من جهته، يرى خبير القانون الدولي، الدكتور ممتاز سليمان، أنه بالنسبة للطرق القانونية لمحاسبة أي دولة ترتكب جرائم ضد الإنسانية، في إشارة إلى إسرائيل، فإن أي منظمة تابعة لأي دولة أو لمجموعة من الناس الذين فقدوا ذويهم في الحرب، عليها أن تقدم دعوى لدى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي.
ويتابع سليمان في تصريحات لـTRT عربي: "تستطيع المجموعات التي تزيد على 20 شخصاً من الفلسطينيين الذين فقدوا ذويهم، أن ترفع دعوى أمام المحكمة الجنائية الدولية وتقديم المسؤولين الإسرائيليين وأخذهم إلى هذه المحكمة بتهمة جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية".
غير أن ازدواجية المعايير التي ينتهجها المجتمع الدولي في تعامله مع قضية فلسطين سيحول أمام أي محاسبة لإسرائيل عن جرائمها الحديثة والقديمة تجاه الفلسطينيين، لا سيما وأن الغرب يقف علانية مع إسرائيل بحجة "دفاعها عن نفسها" بتلك الجرائم الوحشية التي ترتكبها، وفق سليمان.