تحيي منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو) في 27 يناير/كانون الثاني من كل عام ذكرى ضحايا الهولوكوست (الإبادة النازية لليهود)، لتأكيد مكافحة معاداة السامية والعنصرية وكل أشكال التعصب والعنف واستهداف الجماعات.
وتعرِّف "موسوعة الهولوكوست" الإبادة التي حصلت بأنها "عملية اضطهاد وقتل منهجي بيروقراطي برعاية الدولة والنظام النازي وأعوانه، بعدما استولى النازيون على السلطة في ألمانيا عام 1933، وراح ضحيتها ما يقرب من 6 ملايين يهودي".
وتحرص إسرائيل في كل عام على إحياء ذكرى ضحايا المحرقة، ولكن يصادف هذا العام أنها تقف أمام محكمة العدل الدولية مُتّهَمة بارتكاب إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني في حرب غزة، بموجب اتفاقية الأمم المتحدة للإبادة الجماعية، التي وُضعت بعد الحرب العالمية الثانية إثر الفظائع التي ارتُكبت ضد اليهود خلال الهولوكوست.
وفي اليوم 113 للعدوان الإسرائيلي على غزة بلغت حصيلة الضحايا 26 ألفاً و83 شهيداً و64 ألفاً و487 مصاباً، وفق وزارة الصحة الفلسطينية بغزة.
وأمرت محكمة العدل الدولية أمس الجمعة 26 يناير/كانون الثاني إسرائيل باتخاذ إجراءات لمنع ومعاقبة التحريض المباشر على الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين، وتحسين الوضع الإنساني في قطاع غزة.
"الإبادة النازية"
تعرَّض اليهود لعمليات القتل الجماعي المنظَّم خلال الحرب العالمية الثانية، إذ كان يجري تجميعهم في الغيتوات (أحياء وبلدات في أوروبا الشرقية التي احتلتها ألمانيا، عاش فيها اليهود بمعزل عن المجتمع)، ويتعرضون لعمليات إطلاق نار جماعية وسط وشرق أوروبا.
بعدها بدأت ألمانيا مرحلة القتل المنهجي لهم في الفترة بين عامَي 1941 و1945، في الدول التي سيطرت عليها النازية تحت اسم "الحل النهائي للمسألة اليهودية"، إذ جرت عمليات الترحيل إلى مراكز الإبادة في بولندا التي احتلتها ألمانيا في سبتمبر/أيلول عام 1939، ما أدى إلى اندلاع الحرب العالمية الثانية.
وبعد فترة من غزو ألمانيا للاتحاد السوفييتي عام 1941، كان اليهود يُقتلون خلال عمليات إطلاق نار جماعية، إذ قُتل ما يقرب من ثلث ضحايا الهولوكوست حيث كانوا يعيشون، أو في مكان قريب، دون نقلهم إلى غيتوات أو معسكرات.
وصل عدد الضحايا اليهود خلال الهولوكوست حسب المصادر إلى عدة ملايين، بين عمليات إطلاق نار وإحراقٍ في أفران الغاز ورمياً بالرصاص أو من خلال التعذيب.
ورغم ما مرّ به اليهود في وقت ألمانيا النازية من إبادة واضطهاد وتمييز بحقهم، ترتكب إسرائيل الآن بحق الفلسطينيين جرائم إبادة مشابهة في عمليات الاستهداف الجماعي وقصف المدنيين والأماكن المحمية بحق القوانين الدولية مثل المستشفيات والمدارس وأماكن العبادة، إضافة إلى عمليات الحصار والتجويع والحرمان من العلاج.
جرائم الاحتلال الإسرائيلي بحق الفلسطينيين هي تاريخ ممتد منذ أكثر من 75 عاماً منذ النكبة عام 1948، يأتي في آخرها العدوان الإسرائيلي على غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أذ ترتكب قوات الاحتلال الإسرائيلي جرائم حرب ومجازر، إضافة إلى الانتهاكات وعمليات القتل والاعتقال واستهداف المسجد الأقصى والضفة الغربية المحتلة.
ولم تختلف الحال بالنسبة إلى الأطفال بين النازية الألمانية وما تنفذه قوات الاحتلال الإسرائيلي، إذ دعم كلاهما قتل الأطفال بوحشية، فـ70% من ضحايا العدوان الإسرائيلي من الأطفال والنساء.
وأشارت إحصاءات الحركة العالمية للدفاع عن الأطفال، في بداية الحرب إلى أنّ طفلاً يُقتل كل 10 دقائق جراء الهجمات التي تشنها إسرائيل.
"ضحية أمس هتلر اليوم"
على الرغم من أنّ الاضطهاد النازي لم يكن مقتصراً على اليهود فقط، بل امتدّ إلى كل من ليس من "العرق الآري" الصافي، فإن أستاذ الدراسات الإسرائيلية الدكتور أشرف الشرقاوي يرى أنّ "بين فكر وتصرفات إسرائيل وألمانيا النازية أوجه تشابه، إذ إنّ كلتا الدولتين ارتكبت فظائع وإبادة جماعية، وتزعم إسرائيل أنّها تفعل هذا دفاعاً عن شعبها".
ويقول الشرقاوي لـTRT عربي إنّ "كلتيهما لجأت إلى قتل المدنيين دون تمييز، وزعمتا أنّ المدنيين يُقتلون لأنّ الطرف الآخر يستخدمهم دروعاً بشرية، كما استخدم جيشا الدولتين (ألمانيا وإسرائيل) مدنيي المنطقة التي يحتلانها دروعاً بشرية، وقيّد كل من الجيشين بعض المدنيين على مقدمة دباباته حتى يتلافى المقاومة".
ويضيف أنّ "النظام في كلتا الدولتين لجأ إلى فكرة التمكين، ألمانيا النازية بتشريع قانون التمكين، وإسرائيل بتشريع تعديلات قضائية تقيّد المحكمة العليا، وتمنعها من نقض قوانين جائرة تصدرها السلطة التشريعية، بحيث يمكن للسلطة التشريعية أن تتغول على السلطة القضائية".
ويشير الشرقاوي إلى أنّ "النظامين قصفا المؤسسات المدنية بادعاء وجود نشاط عسكري يجري فيها، كما تعمّد جيشا الدولتين استهداف النساء والأطفال للضغط على الطرف الآخر".
ويبيّن أنّ الدولتين تعمّدتا استخدام القوة المفرطة بشكل لا يتناسب مع مستوى المقاومة التي يلقونها، ويلفت إلى أنّ "إسرائيل فاقت مستوى النازية الألمانية بتعمّدها استهداف المستشفيات والمدارس ومهاجمة النازحين في أثناء نزوحهم".
ووفقاً لأستاذ الدراسات الإسرائيلية فقد "فاقت إسرائيل نازيّة ألمانيا في التدني الأخلاقي بتعمّدها تدمير البنية التحتية، بتجريف الطرق وخطوط المياه والصرف الصحي والكهرباء في المناطق التي تغزوها"، فضلاً عن تعمّد تهجير المدنيين من بيوتهم وأحيائهم ومُدنهم، بل وبالضغط عليهم للرحيل خارج البلاد باعتباره هدفاً معلناً، وإطلاق جنودها النار على مدنيين غير مسلحين في ظهورهم، إضافة إلى نبش القبور وسرقة أعضاء بشريّة من الجرحى وقتلهم، والاستفادة من هذه الأعضاء سواء لعلاج مصابيها أو بالاتجار في الأعضاء البشرية على مستوى دولي برعاية مؤسساتها الأمنية.
متاجرة بالهولوكوست
من جهته يقول الباحث في الشؤون الإسرائيلية محمد الليثي: "إنّ أدولف هتلر أحرق اليهود في أفران، يتّسع كل فرن منها لنحو 2500 شخص".
ويشير في حديثه مع TRT عربي إلى أنّ "الاختلاف بين نازية ألمانيا وإسرائيل هي في أداة القتل فقط، فمع تطور الأسلحة يمكن لقصف واحد أن يقتل أضعاف ضحايا هتلر".
ويؤكّد أنّ "إسرائيل تاجرت بنازية ألمانيا وإحراق اليهود، وهي من سعَت لاتفاقيّة منع جريمة الإبادة الجماعية، والآن جرائمها تفوق بشاعة ألمانيا النازية".
ويوضح الباحث أنّ "ممارسات إسرائيل تجاه الفلسطينيين ليست قاصرة على الحرب الأخيرة فقط، بل بدأت من قبل تأسيس الدولة الإسرائيلية. إذ كانت تقتل العصاباتُ الصهيونية العربَ والفلسطينيين، وشهدت مذابح مثل دير ياسين، و5 حروب على غزة بآلاف الشهداء، فضلاً عن جرائم المستوطنين وقوات الاحتلال في الضفة الغربية".
هل تُحاكَم إسرائيل؟
في 11 ديسمبر/كانون الأول عام 1946 قضت الجمعية العامة للأمم المتحدة بتجريم الإبادة الجماعية، بموجب القانون الدولي.
بعد انتحار هتلر وخلال السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية، جرت محاكمة عدد من الشخصيات النازية التي ارتكبت جرائم ضد الإنسانية.
أحد الناجين من الهولوكوست، وهو أهارون باراك، اختارته إسرائيل للانضمام إلى لجنة القضاة الدوليين للدفاع عنها أمام محكمة العدل الدولية في قضية رفعتها جنوب إفريقيا ضد إسرائيل في محكمة العدل الدوليّة في لاهاي بهولندا في 29 ديسمبر/كانون الأول 2023، تطالب فيها بوقف عاجل لحملتها العسكرية.
تضمنت عريضة الدعوى أنّ ما يحدث في غزة الآن يرقى إلى درجة "الإبادة الجماعية"، وأنه جزء من القمع الذي تمارسه إسرائيل ضد الفلسطينيين على مدار عقود طويلة.
في حين تمحور دفاع إسرائيل أمام محكمة العدل، ومقرها لاهاي، حول أنّ "إسرائيل منخرطة في حرب دفاعية ضد حماس لا ضد الشعب الفلسطيني".
وعلى غرار جنوب إفريقيا، تقدّمت إندونيسيا أيضاً في 19 يناير/كانون الثاني الجاري بدعوى قضائية جديدة ضد إسرائيل لمحكمة العدل، بسبب استمرار الاحتلال غير القانوني لفلسطين منذ أكثر من 70 عاماً.
ولكنّ ألمانيا التي تحاول عبر السنين التكفير عمّا اقترفه النازيون، رفضت الاعتراف بارتكاب إسرائيل إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة، وأعلنت في 12 يناير/كانون الثاني أنّها ستتدخل "طرفاً ثالثاً" أمام المحكمة في جلسة الاستماع الرئيسية.
وقال المتحدث باسم الحكومة الألمانية شتيفن هيبستريت إنّ إسرائيل "تدافع عن نفسها" بعد الهجوم "اللا إنساني".
بدوره يرى الباحث في الشؤون الإسرائيلية محمد الليثي أنّ دعم ألمانيا لإسرائيل منطقي لسببين، الأول للتعاون الكبير بين ألمانيا وإسرائيل باعتبارهما دولتين، موضحاً لـTRT عربي أنّ "إسرائيل تقع في الشرق الأوسط لكنها تُعتبر دولة غربية، ويأتي دعم ألمانيا في إطار عدم الرغبة في إحراج الهيمنة الأوروبية الغربية".
والسبب الثاني، وفق الليثي، هو أنّ "دعم ألمانيا لإسرائيل نوع من إظهار الندم على الهولوكوست، وتحسين الصورة".
من جهته يقول الدكتور أحمد فؤاد أنور خبير الشؤون الإسرائيلية إنّ النظام النازي جرت محاكمته لأنه انهزم في الحرب، والتاريخ يكتبه المنتصرون.
ويقول في حديثه مع TRT عربي إنّ "نتائج الحرب الحالية ستحدد كثيراً من الأمور، ليس على مستوى قطاع غزة أو القضية الفلسطينية فقط، لكن ستعيد ترتيب أمور كثيرة في الإقليم".
ويؤكد خبير الشؤون الإسرائيلية أنّ "المعركة ليست قانونية فقط، بل معركة وعي وإعلام وإرادة سياسية واستخباراتية وضغط اقتصادي".
وينوّه بأنّ "رواية تصدير إسرائيل نفسها ضحية النازية قد اهتزت بعدما فاقت جرائمها جرائم النازية، وهو ما لن يغفره التاريخ".