معركة الأثير.. كيف أصبح نظام التموضع الفضائي ساحة صراع؟
الهجمات على إيران
8 دقيقة قراءة
معركة الأثير.. كيف أصبح نظام التموضع الفضائي ساحة صراع؟في الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2011، على التليفزيون الإيراني ظهر مجسم بطلاء صحراوي وحوله بضعة ضباط يتبعون للحرس الثوري الإيراني، يشرحون نجاحهم في السيطرة على أحد النماذج السرية لمسيّرة أمريكية متخصصة في المراقبة والتجسّس.
أنظمة الدفاع الإسرائيلية تصد صواريخ إيرانية استهدفت تل أبيب في 18 يونيو/حزيران 2025 / Reuters
بواسطة عمر الصفدي
5 أغسطس 2025

المسيّرة ذات الجسم المثلث والجسم الانسيابي لم تكُن إلا الطائرة الملقبة بـ"وحش قندهار" الـ"آر كيو-170". كان جسم الطائرة السليم والخالي من الضرر يوحي بأنها لم تسقط باستخدام صاروخ أو مدفعية مضادة للطائرات، وهذا كان مبرراً إضافياً للاحتفاء الإيراني بالنجاح الذي تحقق.

كانت هذه أول مرة تعلن فيها دولة قدرتها على الاستيلاء على منصة جوية معقدة باستخدام مبدأ تزوير إشارات التموضع عبر الأقمار الصناعية (GPS spoofing).

حسب الرواية الإيرانية، المسيّرة التي انطلقت من قاعدة قندهار الجوية في أفغانستان بتحكم من فريق تجسس يتبع لوكالة الاستخبارات الأمريكية، انطلقت في رحلتها شرقاً إلى أن دخلت المجال الجوي الإيراني عبر ولاية خراسان، وواصلت رحلتها إلى أن استخدمت القوات الإيرانية تقنيات الحرب الإلكترونية باستهداف أنظمة اتصال المسيّرة كي تقطع اتصالها بقاعدتها الأم، ثم تنتقل لاستخدام تقنيات تزوير الموقع لتخدع المسيّرة وتوهمها بأنها رجعت إلى قاعدتها في قندهار، ما جعلها تهبط في منطقة منبسطة قرب مطار صغير في مدينة كاشمر.

رغم أن الأمريكيين لم يعترفوا قَط بنجاح الإيرانيين وبقيت روايتهم تصرّ على أن الحادث كان نتيجة خطأ فني، أصبحت هذه العملية حدثاً فارقاً ونقطة تحوّل في استخدام أنظمة التشويش وتزوير المواقع المعتمدة على الأقمار الصناعية وتنقل مستوى المواجهة إلى نطاق حرب حديث لا يستخدم فيه الرصاص والصواريخ، بل فقط الموجات الراديوية والأنظمة الإلكترونية.

ما تزوير إشارات التموضع المعتمدة على الأقمار الصناعية؟

في هاتفك الصغير الذي تحمله في جيبك شريحة وهوائي استقبال، يتيح تلقي الإشارات من مجموعة أقمار صناعية تحلّق على ارتفاع 20 ألف كم حول الأرض، هذه المنظومات تشبه منارات في السماء يعتمد عليها الهاتف للتعرف على موقعه بشكل دقيق، هذه الخدمة هي ما يطلق عليه نظام التموضع العالمي باستخدام الأقمار الصناعية.

هذه الخدمة التى أطلقها الجيش الأمريكي في البداية كي تعتمد عليها قواته العسكرية، أصبحت متاحة للاستخدام المدني سنة 1988 تحت الاختصار المتعارف عليه GPS، لم يعد الأمريكيون الوحيدين الذين يقدمون هذه الخدمة، بل عمل الروس على منظومة غلوناس، والأوروبيون على منظومة غاليليو، ومؤخراً الصينيون على منظومة بايدو، لكن بقيت شبكة الأقمار الأمريكية الأكثر انتشاراً وتبنيها وسط الناس.

ومثل أي منظومة إلكترونية يتوسع استخدامها تظهر طرق مضادة هدفها التأثير فيها أو تخريبها، فتتعرض أنظمة التموضع هذه لنوعين من التأثير، وهما التشويش والتزوير.

أما التشويش فهو استخدام إشارات إلكترونية تستهدف التأثير في الأشخاص الذين يستخدمون هذا النظام بشكل يجعله يفقد دقته أو يتوقف عن العمل تماماً، يستخدم الطرف المهاجم منصات إلكترونية أرضية تختلط موجاتها مع الموجات الأصلية للأقمار الصناعية، ما يجعل الأجهزة المستقبلة تفقد الخدمة ويضيع موقعها الحقيقي.

إذا شبّهنا نظام التموضع بمنارة ضوئية هدفها إرشاد السفن، فإنّ التشويش يشبه إشعال نيران كثيرة حول المنارة تجعل السفينة تضيع إشارة المنارة وتفقد الاتجاهات الحقيقية.

في الحالة الأكثر تقدماً وتعقيداً، يستخدم تزوير الإشارة حتى يوهم الطرف المستهدف بأنه في مكان آخر غير موقعه الحقيقي، الأمر يشبه أن يبني أحدهم منارة جديدة مخادعة في منتصف المحيط حتى يضللك، فيما يغطي ضوء المنارة الحقيقي.

في المواجهة الإيرانية-الإسرائيلية الأخيرة، شهدت هذه الأنظمة مواجهة شرسة بين الطرفين، وكانت ساحة صراع خفية حاول كل طرف منهما استخدامها لتقليل تأثيرات خصمه وحماية مقدراته الاستراتيجية.

في العقدين الأخيرين، ظهر استخدام الطائرات المسيّرة والقذائف الموجهة بالاعتماد على أنظمه التموضع الفضائية بشكل متزايد عند دول وجماعات خارج القوى العالمية الكبرى، فبعد أن كان الأمر حكراً على بضعة جيوش كبرى كالولايات المتحدة وحلفائها، أصبح الأمر أكثر شيوعاً عند قوى إقليمية وحركات مسلحة مثل ايران والحوثيين وحزب الله. شيوع وإتاحة هذه المنصات الهجومية جعلا الدفاع ضدها مهمة أكثر تعقيداً، تضع حملاً إضافياً على منظومات الدفاع وسلاح الجو.

هذا النمط الجديد من القتال المعتمد على مسيّرات رخيصة هدفها الإغراق العددي شهد استخدامه الأبرز منذ اندلاع حرب أوكرانيا، إذ كانت ساحة خصبة لتجربة تأثيرها في المواقع الاستراتيجية مثل المصانع ومحطات الطاقة والمواني والمستودعات والمخازن. 

هذا النوع من الهجوم الذي ينفذ بالاعتماد على أسراب مسيّرات متزامن يستهلك كثيراً من الدفاعات الأرضية من أجل صده، أو يحتاج إلى وجود طائرات ومروحيات في الجو تعترض قبل وصول السرب المسيَّر إلى المناطق المأهولة، لذا يشكل استخدام أساليب تشويش وتزوير إشارات التموضع الفضائي حلاً فعالاً ورخيصاً يتسبب في ضياع هذه المسيّرات وسقوطها في مناطق بعيدة عن هدفها.

إسرائيل التي تشهد مواجهة عسكرية مستمرة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، اعتادت هجمات مستمرة باستعمال مسيّرات نجح بعضها في إصابة أهداف داخل النسيج العمراني والصناعي في مراكز المدن، هذا الذي دفعها إلى استخدام مكثف لعمليات التشويش على أنظمة التموضع الفضائية.

أحد أهم المواقع التي تحرص إسرائيل على حمايتها باستخدام التشويش هي منصات الغاز وسفن الحفر والتنقيب الموجودة في شرق المتوسط بسبب كونها أهدافاً رخوة وثابتة يصعب الدفاع عنها.

تبرز منظومة scorpius-G الإسرائيلية أداة رئيسية في عمليات التشويش على أنظمة التموضع الفضائي، قادرة على استهداف مساحات واسعة بشكل ذكي يتيح لها التفريق بين الأجسام المعادية والصديقة، تتوافر منه نسخ أرضية ثابتة وأخرى مقطورة، كما صُنعت نسخ محمولة جواً وأخرى تركب على منصات بحرية.


يصعب تقييم مدى نجاح هذه المنظومات الإسرائيلية في ظل التكتم الشديد على معدلات نجاحها والميل المعتاد عند مجمعات الصناعة في إسرائيل إلى المبالغة في قدرات مشاريعها المحلية، لكن يمكن القول إنها ليست حلاً سحرياً، بدليل أن كثيراً من المسيّرات المنطلقة من لبنان والعراق واليمن استطاعت الوصول إلى مناطق مأهولة وحساسة وجرى اللجوء إلى طرق الاعتراض الخشن من أجل تحييدها.

على الجانب الآخر، تمارس إيران تقنيات التشويش نفسها لحماية مجالها الحيوي، فبسبب هذه التقنيات ظهر عديد من المشكلات في أنظمة الملاحة البحرية على السفن التي تبحر في منطقة الخليج ومضيق هرمز.

في أثناء المواجهة الأخيرة، ظهرت أنماط غريبة على أنظمة التموضع جعلت السفن التي تبحر بجانب السواحل الإيرانية تظهر في الخريطة كأنها في وسط حقول زراعية في أعماق روسيا، وهذا سبَّب اضطرابات شديدة في تنسيق الحركة البحرية التجارية، بل بلغ تأثير التشويش مواطنين يقطنون في دول الخليج أصبحت هواتفهم تشير إلى أنهم موجودون في الأراضي الإيرانية.

لجوء إيران إلى هذه الاستراتيجية كان محاولة للتأثير في المسيرات والقذائف الموجهة التي تستخدمها إسرائيل، وبما أن مساحة إيران الشاسعة تجعل من الصعب تغطية البلاد كاملة بهذه الأنظمة، فإنّ إيران ركزت على المناطق الاستراتيجية، على رأسها منطقة ميناء بندر عباس، كما أثبتت تحليلات المصادر المفتوحة المهتمة بمراقبة هذه النشاطات. 

استخدام هذه التكتيكات لا يخلو من تأثيرات جانبية تصيب الحياة المدنية حتى في دول غير مشاركة في الصراع، فالموجات الراديوية والإشعاعات لا تعترف بالحدود السياسية.


إلى أي مدى يمتد تأثير أنظمة التموضع الفضائي في حياتنا؟

بسبب موثوقية وانخفاض تكلفة الاعتماد على أنظمة التموضع الفضائية، انتشر استخدامها في كل مناحي الحياة المدنية، بعض التطبيقات يبدو ظاهراً وبديهياً مثل خدمات التوصيل والنقل المستخدمة في سيارات الأجرة وتوصيل الأكل والبضائع، أو حتى الاستخدام الشخصي من أجل الملاحة اليومية عبر الطرق المزدحمة، لكنّ جزءاً آخرَ غير ظاهر يمسّ خدمات وبنيات تحتية أكثر حساسية وتأثيراً.

على مستوى النقل، تعتمد الطائرات الحديثة والسفن بشكل أساسي على أنظمة التموضع الفضائية في تحديد مساراتها وتجنب اصطدام بعضها ببعض، في أثناء الحرب وبسبب استخدام الإسرائيليين لأنظمة التشويش، كان مطار بيروت يعاني من تداخل شديد في خدمات الإقلاع والهبوط، ما يضطر الطيارين إلى الاعتماد على أساليب وطرق قديمة وأقل موثوقية.

الأمر نفسه في الخليج، حيث سبَّب التشويش الإيراني فوضى عارمة في أنظمة ملاحة السفن في إحدى أكثر المناطق ازدحاماً بناقلات النفط والحاويات العملاقة، وكان سبباً رئيسياً في حادث بين حاملتَي نفط نتج عنه اندلاع النيران فيهما.

بشكل غير معروف، تلعب أنظمة التموضع الفضائي دوراً رئيسياً في تنظيم شبكات الهاتف وتزويد أبراج الإرسال بإشارات تمكّنها من المزامنة والحفاظ على استقرار الشبكة.

أمر مشابه يحصل مع شبكات توزيع الكهرباء التي تعتمد على هذه الإشارات من أجل ضمان استقرار التزويد بالكهرباء، لذا في المناطق التي تشهد استخدام تقنيات التشويش تظهر مشكلات متكررة تؤدي إلى سوء خدمات الاتصال الهاتفي والتزود بالإنترنت، كما تؤدي إلى اضطرابات في شبكة الكهرباء.

 كيف تجري مكافحة التشويش وتزوير إشارات التموضع الفضائي؟

كما هي العادة مع أي تقنية هجوم عسكري، يسعى الطرف الآخر لابتكار طرق تقلل من فاعليتها وتتجاوز تأثيرها. فإيران التي بدأت استخدام المسيرات من خلال تزويدها للروس بالمسيرات الانقضاضية تعلمت مبكراً الاعتماد على أنظمة استقبال إشارات التموضع الفضائي أكثر مقاومة للتشويش.

كما أثبت كثير من الصور التي التُقطت لمسيرات إيرانية أنه يمكن بسهولة ملاحظة وجود نظام إلكتروني محصن ضد هذه الهجمات يعمل على عزل وتجاوز إشارة التشويش، كما جرى الانتقال إلى أنظمة توجيه بصري أو تعمل بالذكاء الصناعي في المراحل الأخيرة، فتصبح مستغنية عن إشارات التوجيه الفضائية وتضمن الوصول إلى الهدف بدقة.

أما الطرف الإسرائيلي وبسبب رفاهية الوصول إلى البنية التحتية الأمريكية فهو يستخدم طبقة توجيه أكثر دقة توفرها الأقمار الصناعية حصراً للمعدات العسكرية الغربية، وهذا يجعلها أكثر تحصيناً ضد التشويش.

كما يعمد الإسرائيليون عبر قواتهم الجوية إلى استهداف منصات التشويش نفسها وتدميرها، ما يفتح المجال لبقية مراحل الهجوم من دون عرقلة أو تداخل. أيضاً لوحظ بشكل متكرر استعمال الإسرائيليين لذخائر موجهة بصرياً لا تعتمد على أنظمة التوجيه الفضائي وتتيح للمشغل التحكم في القذيفة حتى إصابة الهدف بدقة.

ختاماً، يبدو بشكل واضح أن ساحة القتال لم تعُد مقتصرة فقط على المجالات الفيزيائية المعروفة، براً وبحراً وجواً، بل تجاوزت إلى نطاقات أخرى غير ملحوظة كنطاق الحرب الإلكترونية ومجالات الحرب السيبرانية.

في معظم المواجهات الحديثة يمتدّ الصراع إلى كل هذه المجالات مجتمعة، لكن يبرز التأثير التدميري التقليدي بشكل أكثر وضوحاً بسبب تطاير الشظايا وانتشار الدخان، فيما يتوارى التأثير الخفي للموجات الراديوية والإشارات التي تأتي من السماء، وتتغلغل في كل مناحي حياتنا، بداية من توصيل علبة بيتزا إلى البيت، وانتهاءً بسقوط مسيرة على غرفة نومك ليلاً.

مصدر:TRT Arabi
اكتشف
"تلتزم تحقيق السلام مع لبنان".. المبعوث الأمريكي يدافع عن إسرائيل رغم اعتداءاتها المتواصلة
البرغوثي: نواجه مخططات تطهير عرقي ضد الفلسطينيين.. وأمريكا تواصل انحيازها الكامل لإسرائيل
مظاهرة داعمة لفلسطين أمام البيت الأبيض احتجاجاً على زيارة نتنياهو
جيش الاحتلال يعلن اعتقال خلية يزعم أنها تتبع فيلق القدس الإيراني جنوبي سوريا
ترمب يتوعد الدول المتحالفة مع بريكس برسوم جمركية إضافية بنسبة 10%
ارتفاع حصيلة ضحايا الفيضانات في تكساس إلى 82 قتيلاً وسط استمرار البحث عن مفقودين
ترمب: أمامنا فرصة جيّدة للتوصل إلى اتفاق بشأن الرهائن في غزة هذا الأسبوع
قادة "بريكس" يدعون إلى إنهاء احتلال الأراضي الفلسطينية ويُدينون الهجمات على إيران
القسام تستهدف تجمعات لجيش الاحتلال بخان يونس وتقصف مستوطنتين محاذيتين لغزة
بلا نتيجة حاسمة.. انتهاء الجلسة الأولى من المحادثات غير المباشرة بين حماس وإسرائيل
جيش الاحتلال يستهدف مواني ومحطة كهرباء في اليمن والحوثيون يعلنون التصدي للهجوم
الضفة.. شهيدان في نابلس وإخطارات بالهدم في الخليل و296 انتهاكاً إسرائيلياً في سلفيت
الدوحة.. جولة مفاوضات جديدة غير مباشرة بين حماس وإسرائيل لأجل وقف إطلاق النار في غزة
"بملايين الدولارات".. تقرير بريطاني: شركة أمريكية تخطط لتهجير فلسطينيي غزة عبر المساعدات الإنسانية
عائلات الأسرى الإسرائيليين تطالب باتفاق شامل تزامناً مع مفاوضات الدوحة
ألق نظرة سريعة على TRT Global. شاركونا تعليقاتكم
Contact us