تكمن أهمية منطقة جنوب القوقاز في أنه عقدة اتصال بين أوروبا وآسيا، وبين البحر الأسود وبحر قزوين، ما جعلها محل تنافس عبر التاريخ بين الإمبراطوريات العثمانية والفارسية والروسية، ثم انضمت إلى التنافس على النفوذ في المنطقة، بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي، ولحقت بها فرنسا والهند.
يتألف جنوب القوقاز حالياً من ثلاث دول صغيرة نسبياً هي: أرمينيا وأذربيجان وجورجيا، ويبلغ إجمالي عدد سكانها مجتمعةً أقل من 17 مليون نسمة. وشهدت المنطقة عدة حروب وصراعات من أبرزها حروب أذربيجان وأرمينيا لتحرير قره باغ من الاحتلال الأرميني، وحرب روسيا وجورجيا عام 2008، ودعم موسكو انفصال منطقتي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية عن جورجيا.
القمة الثلاثية
في أواخر مايو/أيار 2025، وفي العاصمة الأذربيجانية باكو، اجتمع ثلاثة زعماء من خلفيات سياسية وجغرافية مختلفة، لكنهم ينتمون إلى فضاء استراتيجي متداخل: الرئيس التركي أردوغان، ورئيس الوزراء الباكستاني شهباز شريف، والرئيس الأذربيجاني إلهام علييف.
لم تكن القمة الثلاثية التي جمعتهم مجرد لقاء رمزيّ، بل مثَّلت لحظة مهمة في تبلور محور إقليمي يُعيد صياغة خطوط النفوذ في جنوب القوقاز وغرب آسيا وجنوبها. وجاءت في أعقاب تصعيد خطير بين الهند وباكستان، انتهى بوقفٍ لإطلاق النار بعد أسابيع من التوتر الذي كاد ينزلق إلى مواجهة مفتوحة.
سبق القمة اجتماع ثنائي رفيع في أنقرة بين أردوغان وشهباز شريف، حضره وزراء الخارجية والدفاع ورؤساء الأجهزة الأمنية والاستخباراتية، أعقبه لقاء خاص بين وزير الدفاع التركي يشار غولر، وقائد الجيش الباكستاني عاصم منير.
هذا التتابع الزمني، والمشاركة المكثفة للمؤسسات العسكرية والأمنية، أكدت أن ما جرى يتجاوز الطقوس الدبلوماسية التقليدية، وأن التنسيق لم يعد محصوراً في رسائل التضامن السياسي، بل امتد إلى ملفات تنقل العلاقة إلى مستوى أكثر عمقاً في لحظة إقليمية حرجة. ويمثل خطوة نحو توسيع تحالف أمني سياسي آخذٌ في التبلور.
شراكة قديمة متجددة
تعود جذور الشراكة التركية-الباكستانية إلى لحظة تأسيس باكستان نفسها، حيث رأت فيها أنقرة دولة شقيقة في جنوب آسيا، فيما عَدَّ مسلمو شبه القارة الهندية تركيا وريثةً للدولة العثمانية التي ربطتهم بها علاقاتٌ وطيدة تمتد إلى حقبة صراعهم مع الاحتلال البريطاني.
وفي خمسينيات القرن العشرين، انخرطت الدولتان في محاور أكبر تهدف إلى احتواء السوفييت، وتطورت العلاقة في العقدين الأخيرين إلى شراكة أمنية متقدمة شملت التعاون في الصناعات الدفاعية، خصوصاً في الطائرات المسيّرة والسفن والمدرعات.
تنظر أنقرة إلى إسلام آباد بوصفها حليفاً يجمع بين الثقل الجيوسياسي والخبرة النووية، وهي ميزة تعزز من القيمة الاستراتيجية للتحالف. وقد يفتح تعميق التعاون مع باكستان، التي تمتلك ترسانة نووية وخبرة هندسية متقدمة، الباب أمام أنقرة لتعزيز قدراتها الردعية والتكنولوجية.
أما العلاقة التركية-الأذربيجانية فتقوم على مبدأ "شعب واحد في دولتين"، كما اكتسبت طابعاً أكثر عمقاً منذ حرب قره باغ الثانية في عام 2020، حين دعمت أنقرة أذربيجان في معركتها ضد أرمينيا. وقد أكدت تركيا حضورها السياسي والعسكري في جنوب القوقاز، باعتبار المنطقة امتداداً طبيعياً لأمنها القومي، وعمقاً استراتيجياً لترابطها التاريخي والثقافي مع أذربيجان، ومنطقة ذات حساسية تتقاطع فيها خطوط الطاقة، ومسارات النقل العابر للبلدان.
اعتمدت أنقرة مقاربة مزدوجة تجمع بين ترسيخ التحالفات الثنائية والانخراط في أطر الحوار الإقليمي. فرسّخت شراكتها الاستراتيجية مع باكو من خلال "إعلان شوشة"، الذي مثّل نقلة نوعية في التعاون الدفاعي بين البلدين. أما على المستوى الإقليمي، فقد دفعت باتجاه تفعيل آليات التشاور الجماعي، وأبرزها مبادرة "3 زائد 3"، التي تجمع دول المنطقة المعنية مباشرةً بالتوازنات القوقازية: تركيا وروسيا وإيران من جهة، وأذربيجان وأرمينيا وجورجيا من جهة أخرى.
ومع دخول باكستان على هذا المسار، بدأت ملامح محور ثلاثي جديد في التبلور، يضم دولًا تتقاطع في أولوياتها الأمنية ومصالحها الاقتصادية. هذا المسار ليس وليد اللحظة؛ فقد سبق للدول الثلاث أن أصدرت بياناً مشتركاً عام 2017 بشأن التعاون الإقليمي، كما شاركت جيوشها في تدريبات عسكرية منتظمة باسم "مناورات الأشقاء الثلاثة"، بما يعكس رغبة متراكمة في تحويل التقارب السياسي إلى تنسيق عملي متعدد الأبعاد.
شراكة باريس ويريفان
عندما تُستكمل اللقاءات المذكورة بقمة ثلاثية مع أذربيجان، تبدو الصورة أكثر اكتمالًا: اصطفاف ثلاثي يتقاطع في رسائله مع الهند (العدو اللدود لباكستان)، وأرمينيا (الخصم الرئيسي لأذربيجان)، واليونان وفرنسا، اللتين تتنافسان مع تركيا في شرق المتوسط. وهنا لا بد من الإشارة إلى طبيعة العلاقات الفرنسية والهندية مع أرمينيا.
تعود جذور العلاقة بين فرنسا وأرمينيا إلى القرن الحادي عشر الميلادي، إذ كانت مملكة قيليقيا الأرمنية ملاذاً للصليبيين الفرنجة آنذاك، وفي أعقاب الحرب العالمية الأولى استقرّت أعداد كبيرة من الأرمن في فرنسا، مُشكّلين ثالثة كبرى الجاليات الأرمنية في الخارج بعد روسيا والولايات المتحدة، بتعداد بلع نحو 650 ألف شخص، وبرز منهم إدوارد بالادور رئيس الوزراء الفرنسي، بين عامي 1993 و1995، ووزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان، فيما انضمت أرمينيا لمنظمة الدول الفرانكوفونية.
هذا الارتباط التاريخي تحوّل إلى حضور سياسي واقتصادي وثيق، خصوصاً بعد تفكك الاتحاد السوفييتي واستقلال أرمينيا. فقد أصبحت فرنسا منذ عام 1997 الدولة الأوروبية الوحيدة العضو في "مجموعة مينسك" التابعة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، المعنية برعاية مفاوضات السلام بين باكو ويريفان، كما باتت ثاني أكبر مستثمر أجنبي في أرمينيا بعد روسيا.
غير أن هذا الدور الفرنسي لم يبقَ ضمن الأطر الدبلوماسية فقط؛ ففي نوفمبر/تشرين الثاني 2020، صوّت مجلس الشيوخ الفرنسي لصالح فرض عقوبات على أذربيجان، ثم وقّعت باريس مع يريفان في أكتوبر/تشرين الأول 2023 اتفاقية لتزويدها بمعدات عسكرية تشمل نظارات رؤية ليلية، ورادارات للدفاع الجوي، وناقلات جنود مدرعة.
وأثار هذا التحرك انتقادات حادة من باكو، حيث وصف الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف تحركات باريس بأنها امتداد لاستعمار فرنسي جديد يهدد استقرار المنطقة، في حين اتهمت باريس أذربيجان بالتحريض على مظاهرات مناهضة لها في مستعمرة كاليدونيا الجديدة في المحيط الهادئ.
أبعاد التحالف الأرمني-الهندي
يصعب فهم وتيرة التقارب المتسارعة بين الهند وأرمينيا دون وضعها ضمن سياقها الجيوسياسي الأوسع. فنيودلهي، التي تخوض منافسة إقليمية مركبة مع كل من باكستان والصين، تسعى لتوسيع مجالها الحيوي باتجاه مناطق نفوذ جديدة، بما في ذلك جنوب القوقاز.
هذا التوجه الهندي مدفوع بعدة اعتبارات، أبرزها: الرد غير المباشر على دعم تركيا وباكستان لأذربيجان خلال حرب قره باغ الثانية، وتأمين موطئ قدم استراتيجي في الممرات التجارية والطاقة العابرة بين آسيا وأوروبا، بالإضافة إلى تعزيز التنسيق مع أطراف أوروبية -وعلى رأسها فرنسا- في إطار رؤية تهدف إلى موازنة الحضور التركي المتنامي في المنطقة.
أما أرمينيا، التي تمر بتحول جذري في سياستها الخارجية منذ عام 2023، فقد وجدت في الهند بديلاً جزئياً لعلاقتها التقليدية مع روسيا، خصوصاً في ظل التوتر المتصاعد مع موسكو على خلفية شعور يريفان بتخلي موسكو عنها في حرب قره باغ، والعجز الروسي عن تلبية العقود الدفاعية نتيجة الانشغال في أوكرانيا.
وهكذا، وُقعت عقود تسليح كبرى بين الهند وأرمينيا، بلغت قيمتها نحو ملياري دولار، شملت أنظمة دفاع جوي وراجمات صواريخ ورادارات حديثة. وأصبحت الهند أكبر مورد عسكري لأرمينيا بدلاً من روسيا منذ عام 2020، كما عيَّن كل منهما ملحقاً عسكرياً لدى الآخَر في عام 2023، في مؤشر على تعمق العلاقات العسكرية، وتُوّج هذا التحول بتبادل تعيين الملحقين العسكريين في عام 2023، في مؤشر واضح على ترسيخ التعاون الأمني وتحويله من مستوى سياسي إلى شراكة عسكرية لها تبعات مباشرة على موازين الردع الإقليمي في جنوب القوقاز.
تُبدي الهند حساسية مفرطة تجاه أي مساعٍ لتدويل قضية كشمير، وتعدّها شأناً داخلياً غير قابل للمساومة. وقد عبّرت نيودلهي بوضوح عن انزعاجها من الخطابات المتكررة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان في الأمم المتحدة، لا سيما تشبيهه كشمير بغزة، وهو ما فُهم على نطاق واسع على أنه موقف داعم لباكستان.
ورداً على ذلك، اتجهت الهند إلى تعزيز علاقاتها مع خصوم تركيا الإقليميين، وفي مقدمتهم اليونان وإدارة جنوب قبرص اليونانية، كما أجرت مناورات بحرية مشتركة مع إسرائيل وفرنسا في شرق المتوسط، في إشارةٍ رمزية إلى اصطفاف مضاد ضمن التوازنات البحرية والأمنية في الإقليم.
في السياق ذاته، تتبنى نيودلهي مشروع "ممر الخليج-البحر الأسود"، الذي يربط الهند بأوروبا عبر الخليج، وإيران، وأرمينيا، وجورجيا، متجاوزاً الأراضي التركية والأذربيجانية. ويُعد هذا المشروع منافساً مباشراً للممر الأوسط المدعوم من أنقرة وباكو، الذي يشكّل جزءاً من شبكات الربط بين الصين وأوروبا عبر آسيا الوسطى.
هذا التنافس بين الممرّين لا يقتصر على البنية التحتية، بل يعكس رؤيتين متباينتين للتكامل الإقليمي: إحداهما تستبطن دوراً تركياً أذربيجانياً صاعداً، والأخرى تسعى لتكريس نفوذ هندي أوروبي متزايد في فضاء القوقاز. وهكذا، تتحول مشاريع النقل والتجارة من أدوات تنمية إلى أدوات تطويق ناعم، تُعاد من خلالها صياغة خطوط النفوذ وخرائط الردع في منطقة باتت مسرحاً مفتوحاً للتنافس بين القوى الإقليمية الصاعدة.
الحكمة المطلوبة
تشير القمة الثلاثية بين تركيا وأذربيجان وباكستان إلى تحوّل تدريجي في شبكات التحالف الإقليمي في جنوب القوقاز، وارتباط تلك المنطقة أكثر فأكثر بمعادلات تتجاوز حدودها الجغرافية، لتشمل جنوب آسيا، وآسيا الوسطى، وشرق المتوسط. وبينما تسعى أنقرة إلى توسيع عمقها الاستراتيجي عبر شراكات متعددة، تنظر إسلام آباد إلى التحالف على أنه وسيلة لتعزيز موقعها الدبلوماسي في أعقاب التوتر مع الهند، فيما ترى باكو في هذا التقارب عاملاً إضافياً لدعم مكانتها ضمن التوازنات القوقازية.
لكنّ هذه الاصطفافات الجديدة تجري في بيئة إقليمية شديدة التعقيد، حيث تتداخل مشاريع النقل والطاقة مع الحسابات العسكرية والهويات العرقية والدينية، وتتقاطع مصالح قوى دولية كبرى مثل روسيا، والولايات المتحدة، والصين، والاتحاد الأوروبي، فضلاً عن إيران. وبينما تحاول بعض الدول تعزيز حضورها في المنطقة عبر أدوات التحالف والدعم العسكري، يبقى مستقبل الاستقرار في جنوب القوقاز مرهوناً بقدرة الأطراف المختلفة على إدارة توازناتها بحذر، وتجنب تحويل التنافس الجيوسياسي إلى صراع مفتوح.
جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كتّابها، ولا تعبِّر بالضرورة عن TRT عربي.