في تسجيلات صوتية مسرّبة، بثتها القناة الإسرائيلية الـ12 بعد تصديق الرقابة العسكرية الاسرائيلية عليها، خرج صوت هاليفا وهو يتحدث بلغة مباشرة ودون مواربة، كاشفاً مواقف صريحة حول إخفاقات المنظومة الأمنية والسياسية.
التسجيلات، التي جُمعت على مدار الأشهر الأخيرة، تناولت قضايا حساسة، من تحمّله المسؤولية الشخصية عن فشل جيش الاحتلال في السابع من أكتوبر، إلى الأخطاء الجوهرية في تقديرات "أمان"، مروراً بدور الأجهزة الأخرى مثل الشاباك، وانتهاءً بمسؤولية المستوى السياسي الذي تجاهل التحذيرات وعمّق أوجه القصور.
ليلة السابع من أكتوبر
وقال هاليفا: "المؤشرات ظهرت منذ التاسعة مساء الجمعة. أول وآخر اتصال تلقيته في تلك الليلة كان في الساعة 3:20 فجراً من مساعدتي".
وعن سؤال إن كان قد أُبلغ بتشغيل أنظمة الاتصالات قال: "لم يُخطروني. كانوا يتواصلون مع قائد المنطقة الجنوبية الذي بدوره تواصل مع مسؤول في الشاباك. وفي الساعة 3:30 صباحاً أصدر الشاباك وثيقة قال فيها إن التفاهمات مع حماس لا تزال قائمة. كل شيء كان موثقاً. لذلك أعتقد أن ما حدث في تلك الليلة ليست هو القضية".
ويضيف: "القضية أن المفهوم السائد حينها كان أن الاستخبارات ستوفّر كل الإجابات. لكن الاستخبارات ليست كذلك، هي أشبه بقطع بازل معقدة جداً. من يظن أن قراراً كان سيتغيّر لو أيقظني أحدهم في الليل، فهو كاذب. حتى لو اتصل بي رئيس الأركان في تلك الليلة، لكنت قبلت تقييمات الشاباك وضباط المنطقة. أي حديث غير ذلك هو كذب".
وفي نقطة شديدة الحساسية، أضاف: "حتى لو عُرضت عليّ كل المعلومات الاستخبارية تلك الليلة، وأيقظوني للاتصال برئيس الأركان، لكنت قلت: كل شيء على ما يرام، سأعود للنوم".
أما بخصوص الشائعات عن مكان وجوده، فقد نفى قائلًا: " الحقيقة أنني قضيت الليلة نائماً إلى جانب ابنتي أريئيل وزوجتي. لم أكن مخموراً، فأنا لا أشرب الكحول أبداً. لكن من يعتقد أن ما جرى تلك الليلة هو سبب الكارثة، فهو لا يفهم شيئاً".
ما هو المفهوم؟
وحول تعريف: "ما هو المفهوم؟ إذا كان بإمكاني أن أقول لك إن شاحنة خرجت من إيران، عبرت إلى سوريا، وفي الشاحنة الرابعة من بين 22، هناك صاروخان في الجزء الخلفي، وسأضربها بالضبط. إذا كان لدينا هذا القدر من الدقة، فكيف لا نعرف عن حرب كبيرة في غزة؟ هل تفهم ما هو 'المفهوم'؟”.
ألون بن مئير، رئيس قسم الأبحاث سابقاً، قال في أحد التحقيقات: تخيلوا أننا حصلنا على معلومة بأن محمد الضيف والسنوار تحدثا ليلة 6 أكتوبر عما سيحدث في 6:29 صباحاً. حتى لو وصلتنا هذه المعلومة، لم يكن سيغيّر ذلك شيئًا. لأنه لا يوجد في خيالنا أبداً سيناريو مثل هذا. كنا سنفسره وفق 'المفهوم' السائد: مناورة، أو استعداداً لصد هجوم إسرائيلي متوقع".*
يقول هاليفا: "قدّرتُ كرئيس أمان أن عامي 2023 و2024 سيكونان كارثيين في الضفة الغربية. ورأينا أيضاً في المواد لدى السنوار أنه أنهى القتال في غزة، وكل شيء سينتقل إلى الضفة. كنت أعتقد أن احتمال أن يأتي 50 فلسطينياً من قرية في الضفة لمهاجمة مراقبات وجنود في موقع بـ’ياكير‘ أكبر بكثير من احتمال وقوع هجوم في غزة. يوم الجمعة (6 أكتوبر) انشغلنا كثيراً في حوارة بسبب ضغط سموتريتش".
ما بين الشاباك وأمان
يقول أهارون هاليفا: "أجريتُ تحقيقات داخل شعبة الاستخبارات العسكرية (أمان)، وأنا شخصياً وقّعت عليها بكلتا يديّ، وأؤكد لك أنه لا يوجد أي جهاز في دولة إسرائيل أجرى تحقيقاً معمقاً حتى اليوم في هذه الحرب مثلما فعلت أمان. لقد أشرفتُ عليها بنفسي. ستة أيام ثلاثاء متتالية، من الساعة الثامنة صباحاً حتى الخامسة مساءً، في منشأة تابعة لأمان، وأنا أؤمن أن نور الشمس يشفي كل شيء. جمعتُ كل الضباط برتبة عقيد في أمان، بين 40 و50 شخصًا، حتى لا يتمكّن أحد بعد سنوات من القول إن الأمور لم تُعرض عليه أو أُخفيت عنه."
ويضيف: "ما توصلتُ إليه في هذه التحقيقات أعمق بكثير من الأسماء والوجوه. الأسماء والوجوه معروفة، كثيرة، لا يهم من هم. ما حدث جرى في نوبتنا. كان يمكن أن أترك المنصب قبل شهرين أو بعد شهرين وأقول: هذه مشكلتهم. لكنني لا أعتقد أن أحداً قصّر عن عمد.. لكن الأمر يتطلب تفكيكاً وإعادة بناء أعمق بكثير من مجرد فرقة غزة أو قيادة الجنوب".
ويحمّل رئيس أمان السابق الشاباك مسؤولية لا تقل -وربما أكثر- عن مسؤولية أمان: "وفقاً للقانون وبالمعطيات المجردة، ليست لدى أمان مسؤولية على جمع المعلومات البشرية (هيومنت)، بينما الشاباك مسؤول عن ذلك. الشاباك مَن كان عليه أن يحرّك عميلاً واحداً في الليل هو الشاباك. أين أنت يا شاباك بكل ملياراتك؟".
ويضيف: "مع الصلاحية تأتي المسؤولية. هناك فشل ثقافي عميق تراكم على مدى سنوات. لذلك أقول: إذا انتهى الأمر باعتباره 'حادثة عرضية' وتخلّصنا من بعض الأشخاص فقط... فهذا أمر سطحي. المشكلة أعمق. دولة إسرائيل انطفأت. على الناس أن يغادروا حتى ينبت القمح من جديد. في حدث 'توراتـي' بهذا الحجم، المسؤولية تقع على الجميع. لا تقلق، ليست 100% عندي و20% عندك، الجميع يتحمل 100%. الأمر يرتبط بالثقافة السياسية–المجتمعية التي نعيشها".
"أتحمل المسؤولية"
ويواصل هاليفا الحديث عن مسؤوليته الشخصية : "ماذا يعني أن أكون رئيس أمان؟ هل أنا من يعرف ما يجري في حماس بنفسي؟ لدي جهاز يضم 22 ألف شخص في الخدمة النظامية، و25 ألفاً آخرين من الاحتياط. وحش ضخم، وأنا في النهاية أوقّع على تقديراتهم. لا أقول ذلك للتنصل، بل لأوضح أنني المسؤول. ما حدث جرى في نوبتي. لو أن السنوار فعل ذلك بعد سنتين لقلت: المسؤول هو ذاك الغبي الذي يشغل المنصب الآن. ولو حدث قبل سنتين لقلت: إنه ذاك".
يقول: "لدي صديق مقرّب، جنرال متقاعد اليوم، قال لي: حضرتُ جلسة مع قادة الألوية عند رئيس الأركان وخرجتُ مصدوماً. عن ماذا تحدث القادة؟ عن الإجازات، عن ظروف البيت. الثقافة التنظيمية دمّرت الكثير".
ويضيف: "أعترف أنني أسهمتُ في ذلك. لأننا كنا نتساهل: سبت نعم وسبت لا، بسبب الزواج، بسبب صعوبة الثمن الشخصي. أردنا أن يبقى قادة السرايا الجيدون، قادة الكتائب الجيدون، ومعظمهم من الصهيونية الدينية، لديهم عائلات أكبر. بعضهم يريد السفر للخارج. اضطررنا إلى التساهل".
ويتابع: "هناك 'إغلاقات أعياد': في عيد العُرش، في حانوكا، في الفصح، في آخر أسبوعين من أغسطس، وأحياناً في عيد المساخر (بوريم). هذا ليس بسبب الإرهاق بل بسبب الغرور. اعتقدنا أننا أقوياء بما فيه الكفاية، وأن عدونا جرى ردعه. أخطأنا".
يقول هاليفا: "في 2022، خلال عرض في قيادة الجنوب وفرقة غزة، قال أحد كبار الضباط: ماذا؟ هل سيأتون فوق الأرض؟ لماذا إذاً لديهم أنفاق؟ فأجابوه: نعم. فقال ساخراً أمام الجميع: إذاً فليأتوا!"
خطر الاجتياح
وعن الخطة الاستخبارية التي وُضعت في أمان وسُمّيت "جدار أريحا"، التي زُعم أنها توقعت الهجوم، قال هاليفا: "قبل عام من الأحداث، زرتُ فرقة غزة. قالوا لي إن هناك خطة اسمها 'جدار أريحا'. كُتب عنها تقرير. كُثر مثلها، مئات التقارير. عُرضت عليّ عبر الفيديو. في النهاية قالوا لي: نعتقد أنها خطة لبناء القوة العسكرية، وليست خطة عملية".
وعندما سُئل هل تابعها، أجاب: "لا. في أمان اكتشفنا أن كثيرًا من الأمور تسقط بين أنظمة المعلومات. لدينا خلل بنيوي: نحن جيش لا يتعلم، المعطيات تضيع ولا تنتقل. هذه مشكلة".
وأضاف: "قلتُ لفرقة غزة إن التهديد الأول أمامهم هو سيناريو الاقتحام (الاجتياح). هذا مكتوب في تقرير رسمي. قلت لهم: عليـكم التعامل مع الأمر استراتيجياً وعملياتياً وتكتيكياً. وحذّرتهم أن المراقبات (المجندات في الأبراج) هنّ عيونكم، استثمروا فيهن. كل ذلك مكتوب".
حزب الله والمعركة
يدعي رئيس الاستخبارات المستقيل : "أعتقد أن السنوار ومحمد ضيف، وخاصة ضيف ومروان عيسى، اتخذوا قرارًا في مكان ما عام 2020–2021، وربما قبل ذلك، بإعداد خطة لاقتحام وتدمير فرقة غزة. أظن أن هذا هو الوقت الذي بدأ فيه السنوار يتحدث عن حزب الله، واعتقد أنه قد ينضم إليه. بالمناسبة، هذه كانت أكبر أخطائهم. لقد ارتكب خطأ فادحاً عندما ظن أن حزب الله سينضم إليه، ونصر الله نفسه ارتكب خطأ حين انضم بمعركة صغيرة، لكنه لم يدرك أن هذا سيدفعنا لاحقاً إلى الجنون وسنقتله".
وعندما سُئل: لماذا لم ينضم نصر الله إلى حماس في البداية؟ أجاب: "لأنه فهم ثمن الحرب. فهم أنه غير مستعد لذلك، وفهم أن السنوار ارتكب خطأ كبيراً جداً. نصر الله فقد ابنه وعاش تجربة الضاحية عام 2006. هو يتذكر الثمن. أما السنوار فلم يرَ هذا الثمن".
الإبادة كضرورة
يقول هاليفا: "حقيقة أن هناك 50 ألف قتيل في غزة أمر ضروري ومطلوب للأجيال القادمة. نعم، أُهينوا، ذُبحوا، قُتلوا، كل هذا صحيح. الثمن، قلتُه قبل الحرب: عن كل ما حدث في السابع من أكتوبر، يجب أن يموت خمسون فلسطينياً مقابل كل واحد. لا يهم إن كانوا أطفالاً. لستُ أتكلم من باب الانتقام، بل من باب رسالة للأجيال القادمة. لا خيار آخر. في هذا الحي المجنون، يحتاجون بين حين وآخر إلى ’نكبة‘ حتى يشعروا بالثمن".
ويضيف: "أنت تعرف، جلس معي أحدهم في المكتب بعد أشهر من بداية الحرب، وقال لي: ’الحمد لله أن ما حدث كان مع الكيبوتسات اليسارية التي كانت تقلّ كل الغزيين للعلاج في إيخيلوف وتل هشومير. لو كان هذا حدث معنا، نحن اليمين، لما خرجتم إلى حرب كهذه‘. هكذا يؤمن الناس هنا".