يعدّ معبر رفح ممراً حيوياً بين الحدود المصرية-الفلسطينية، إذ يقع بين جنوب قطاع غزة وسيناء، وهو المنفذ الوحيد لأهالي القطاع، للسفر خارج فلسطين ولإيصال الإمدادات والمساعدات الإنسانية اللازمة.
وتشرف على المعبر الإدارتان المصرية والفلسطينية، ولكنّ ضغوطاً باتت تُمارس بشكل غير مباشر للتدخل في عملية فتحه وإغلاقه، وخصوصاً بعد إطلاق "طوفان الأقصى" 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
ومنذ أكثر من شهرين، وبين دخان الصواريخ واهتزاز الأرض تحت أقدامهم والتوقف المؤقت للقصف، وتراكم شاحنات المساعدات ودخولها، يعيش العاملون في المعبر من الجانب المصري صوراً ومشاعر مختلطة بين العجز والانفراج، يروونها لـTRT عربي في هذا التقرير.
"أهلا بكم في فلسطين"
محمد هاني، 34 عاماً، صحفي يعمل في قناة فضائية مصرية، ويتردّد على المعبر منذ شهرين، يقول لـ TRT عربي إن "فترة وجوده حول المعبر تُحرِّك فيه فَيضاً من مشاعر مُختلطة، فرغم سعادته بتغطية إدخال المساعدات ومتابعة تفاصيل مشهد تضامن شعوب العالم مع الشعب الفلسطيني بإرسال المساعدات الطبية والأغذية، فإنه سرعان ما يقف أمام جدار الواقع المُرّ".
يرواح هاني بين الأمل مرّة، وصوت القصف على مسافة أقل من 2 كيلومتر مرّاتٍ أخرى، ويصف قلقه الناتج عن أصوات القصف بأن "قلبه يتمزق أمام مشهد أناس يتعرضون للإبادة"، مؤكداً أن "ما يشاهده طوال اليوم يكفي لحرمانه من النوم أشهراً طويلة".
ويصف لحظة رؤيته لافتة كُتب عليها جملة "أهلا بكم في فلسطين"، حين مرّ إلى الجانب الآخر، فقد كان من المفترض أن يشعر بسعادة لرؤيته اللافتة للمرة الأولى، لكنه قال إنه كان حزيناً لظروف زيارته، فدوره هنا نقل أخبار القصف، والقتل يُنغّص سعادته بوقوفه أمام اللافتة للمرة الأولى في حياته.
ويلفت هاني إلى أنه يعاني من ظروف نفسية قاسية، وإنْ كانت لا تُقارن بما يعيشه أهالي غزة، كما أن لحظات سعادته بفرحة أطفال غزة لوصولهم سالمين إلى الأراضي المصرية وقفزهم من الحافلات، وكأنهم يقفزون من فوق خندق يفصل بين الموت والحياة، تدفعه إلى البكاء لعْناً للظروف التي تجعل شخصاً يشعر بالنجاة فقط لأنه ابتعد عن بيته.
"كأن الحرب تحت بيتنا"
محمد عبدالهادي 38 سنة المصور التلفزيوني، يتابع طوال شهرين الحرب الدائرة على مرمى البصر ويشاهد الصواريخ وما يتبعها من آثار دخان، ويسمع أصوات الطائرات والصواريخ والقنابل، ويشعر بتفاصيل لم يقدر على التعبير عنها سوى بجملة واحدة: "كأن الحرب تحت بيتنا".
ويقول عبد الهادي لـTRT عربي، إن "فزعه الشديد على أهل غزة يتجدد مع كل صوت صاروخ أو اهتزازة أرض أو ارتفاع للنيران مثل جهنم حتى السماء".
يعجز لسان عبد الهادي عن وصف ما رآه في مصابين نقلتهم سيارات الإسعاف المصرية خلال الأشهر الماضية، أطفال في عامهم الرابع أو الخامس فقدوا أطرافهم وأُصيبوا إصابات بالغة.
ويلفت إلى جهود المتطوعين بقوله: "منذ لحظة وصول المصابين يبادر المتطوّعون بتوزيع الطعام والمياه عليهم، ويتسلّمهم الأطباء لإسعافهم وإتمام علاجهم".
كانت الحالة الأصعب على قلب عبد الهادي هي حالة طفل فلسطيني ذي سبع سنوات، اسمه آدم، كان مصاباً بالسرطان ودخل إلى مصر لتلقي العلاج، لكن علم عبد الهادي عن وفاته لاحقاً مما أصابه بحالة حزن شديدة، كما يصف حالة أخرى لمُسنٍّ فلسطيني استُشهد أولاده ورفض العلاج راغباً في العودة إلى غزة والاستشهاد ليجتمع بهم.
ثلاث مراحل عايشها عبد الهادي على المعبر المصري، يصف أولها بمرحلة الحزن والتساؤل عن وقت السماح بمرور المساعدات، والثانية كانت مرحلة الهدنة التي أراحت أعصابهم قليلاً، خصوصاً مع أداء مصر دور الوساطة في عملية تبادل الأسرى، وصولاً إلى المرحلة الحالية من عودة القصف.
ويشير إلى أن تكدس شاحنات المساعدات كان عاملاً مشتركاً منذ بدء القصف حتى الآن، "حتى مع مرور المساعدات لم نعد نرى الصحراء على جانبي الطريق، فالمساعدات في كل مكان ولا تسعنا الفرحة حين تبدأ الشاحنات المرور إلى الجانب الآخر ورؤيتنا عبارة "أهلا بكم في فلسطين"، حسب قوله.
متلعثماً يحاول عبد الهادي وصف مشاعره بعد وقوفه أمام هذه العبارة، ويقول إنه شعر بالشوق رغم وجوده للمرة الأولى في هذا المكان، وكأنه كان مغترباً وعاد إلى أهله ويرغب في احتضانهم، فضلاً عن الراحة النفسية الكبيرة كأنه يدخل الحَرَم، فللمكان قدسية تُغلفه، ورغم ما يشهده من قتل وقصف، فإنك تشعر بالحياة بمجرد أن تطأه قدماك.
المعبر.. "روح أهالي غزة"
أحمد النمر، وهو سائق شاحنة تحمل المساعدات إلى غزة، يروي تجاربه مع زملائه من السائقين، الذين ينتظرون وقتاً طويلاً لإدخال المساعدات بسبب إجراءات التفتيش الإسرائيلية، التي تؤخر توصيل المساعدات، معتبراً أن هذه آلية لـ"تسريب اليأس والملل للمسؤولين عن إدخال المساعدات".
ويقول أحمد لـTRT عربي، إن "أصوات القصف والانفجارات هي أكثر ما يُنغص عليه وزملائه حياتهم، فيفزعوا من نومهم، وكل ما يفكرون فيه هو حال مَن يعيشون تحت هذا القصف مباشرة".
تكررت مشاهد الدخان والانفجار أمام أعين أحمد يوميّاً منذ وصوله إلى المعبر بعد انتهاء الهدنة، لم يُفكر للحظة في شيء سوى دوره في تأدية الأمانة وإيصال المساعدات إلى الجانب الآخر من المعبر.
ويضيف أن "الشعور بالخوف والملل من الانتظار رفاهية لم يعد لها مكان، فالمعبر يُمثل روح أهالي غزة، ولا يمكن لأحد أن يتخاذل عن إغاثتهم"، متسائلاً: "لو أنا شعرت بالخوف، وآخرون رجعوا، فمَن الذي سيوصل الأمانة؟!".
ويوضح السائق أن ما يُعانيه في وقت الانتظار، حتى وإنْ طال شهراً أو أكثر، لا يُقارَن بما يعيشه أهالي غزة يوميّاً، مشيراً إلى أن "المصاعب تهون كي تصل إليهم رسالتنا، فالأمر بالنسبة لنا واجب إنساني إجباري لا يمكن التخلي عنه، وما يهمنا أن يفك الله عنهم الحصار وينصرهم".
الإرهاق النفسي
بدوره، لم يعد السائق عليّ قادراً على تحمُّل ما يحدث في قطاع غزة، فهو موجود منذ 22 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وعايش فترة القصف السابقة للهدنة، ارتكن عقله إلى شعور الاطمئنان المؤقت الملازم لفترة الهدنة، ورفض تصديق عودة القصف مرة أخرى.
يقول عليّ لـTRT عربي، إنه يعمل سائقاً ملازماً فريقاً إعلاميّاً يغطي الأحداث من المعبر، تُرهقه مشاهد الضرب وما يتبعها من اهتزاز الأرض تحت قدميه، وهو ما يُشعره بالخوف على أهالي غزة.
كانت لحظات السعادة التي عاشها عليّ منذ وجوده في هذا المكان هي وقت تسليم الأسرى، حيث دعا الله أن يتوقف القصف نهائيّاً رحمةً بسكان القطاع، مشيراً إلى أن الصورة الأولى التي تتجسد في مخيلته منذ عودة القصف هي صورة الأطفال، خصوصاً أنه أب، وذلك يُشعره بالعجز تجاه ما يحدث على مسافة قريبة منه من دون قدرته على فعل شيء.
ويبيّن أن المساعدات الطبية والطعام يجري إدخالها باستمرار بكميات كبيرة، لكنه لم يعد يتحمل أصوات القصف، ولم يعد يرغب في البقاء ومتابعة ما يحدث أمام عينيه يوميّاً.