شارك في الفاعليات ناجون من المجزرة، بينهم براء عثمان ومحمد الشامي وياسين دبورة، إلى جانب أهالي الضحايا ووفود حقوقية ورسمية، مؤكدين أن الجريمة ما تزال جرحاً مفتوحاً في الذاكرة السورية وعلامة سوداء في تاريخ البلاد المعاصر.
وبحسب ما رصدته الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فإن أرقام الضحايا وشهادات الناجين تتقاطع لتؤكد أن الكارثة لم تنتهِ بعد، وأن غياب العدالة يضاعف من وطأة الذكرى مع كل عام جديد.
وانطلقت الفاعليات منذ ساعات الفجر الأولى بتكبيرات في مساجد دمشق وريفها، تلاها تمثيل رمزي للحظات القصف.
كما خرجت مواكب شعبية من مقبرة شهداء الكيماوي في زملكا، مروراً بساحات العاصمة وصولاً إلى صرح الجندي المجهول.
وتخلل البرنامج زيارات لمقابر الضحايا، وعرض لأسمائهم على شاشات عامة، إضافة إلى التوقيع على عريضة تطالب بمحاسبة المسؤولين عن المجزرة.
يُذكر أن الغوطتين الشرقية والغربية شهدتا في فجر 21 أغسطس/آب 2013 واحدة من أبشع الهجمات الكيماوية في القرن الحادي والعشرين، حين أطلقت قوات النظام صواريخ محمّلة بغاز السارين على بلدات محاصرة، ما أدى إلى مقتل المئات اختناقاً وإصابة الآلاف.
وبعد اثني عشر عاماً، ما تزال صور تلك الليلة وشهادات الناجين شاهدة على جريمة لم تنل العدالة بعد.
بيوت تعج بالموت
يتذكر الصحفي والناشط الإعلامي براء عثمان، عضو اتحاد الصحفيين السوريين، تفاصيل تلك الساعات قائلاً: "مع اقتراب الساعة الثانية إلا ربعاً فجراً بدأ سقوط الصواريخ المحمّلة بغاز السارين. ترددنا قليلاً في التوجه إلى مكان الاستهداف بسبب الخوف، لكننا وصلنا نحو الثانية والنصف ليلاً. كانت المشاهد صادمة لا تُوصف: حيوانات نافقة في الطرقات، وبيوت امتلأت بعائلات اختنقت وهي نائمة".
ويضيف: "في البداية لم نفكر في التصوير، كان همّنا الأول هو الإسعاف. لكن لاحقاً بدأنا نوثق ونرسل المقاطع للفضائيات. رأيت مسعفين يسقطون بعد إنقاذهم للمصابين، وفي النقاط الطبية جُرّد الضحايا من ملابسهم الملوثة وغُسلت أجسادهم بالمياه، إلا أن الأعداد الكبيرة جعلتنا عاجزين عن التوثيق الكامل".
يصف عثمان ما شاهده بأنه كان أشبه بـ"يوم القيامة"، ويقول: "وثّقنا خلال يومين أكثر من 12 ألف مصاب ونحو 1400 شهيد، كثير منهم أطفال مجهولو الهوية بعدما أُبيدت عائلاتهم بالكامل. لم يكن هدف النظام قتل المدنيين فحسب، بل إرباك الجبهات وفتح الطريق لاقتحام الغوطة. ومع ذلك، صمدت خطوط الدفاع".
ويؤكد أن النظام حاول استغلال الضربة لاقتحام الغوطة الشرقية، مضيفاً: "كانت الغاية مزدوجة: قتل المدنيين وشلّ خطوط المقاومة. لكن المقاتلين تدفّقوا من مختلف مدن الغوطة، ما أربك النظام وأفشل خططه".
ويختم شهادته بالقول: "ما جرى تلك الليلة لم يكن مجرد جريمة عسكرية، بل مجزرة بحق الإنسانية جمعاء. صور الأطفال والنساء والمصابين ستظل محفورة في الذاكرة، شاهدة على الثمن الباهظ الذي دفعته الغوطة في سبيل الحرية".
مجازر بلا دماء
أما محمد الشامي، سائق سيارة إسعاف من بلدة زملكا، فيستعيد تلك الليلة القاتمة قائلاً: "اتصلت بي غرفة العمليات وطلبت التوجه فوراً. نقلت أربع حالات لم يكن على أجسادها أي أثر للدماء، وعندها أدركت أننا ضُربنا بالسلاح الكيماوي. كانت أجساداً متخشبة بلا حراك. عدت إلى موقع القصف فوجدت الناس يختنقون رغم الكمامات المبللة، ثم جاءت ضربة أخرى لم يرافقها صوت انفجار، بل غازات قاتلة انتشرت في المكان".
ومع اتساع رقعة المجزرة، عجزت سيارات الإسعاف عن استيعاب الأعداد المتزايدة من المصابين. يقول الشامي: "صدر نداء عاجل لكل من يملك سيارة ليتوجه للمساعدة. خرج المدنيون بسياراتهم الخاصة لنقل المصابين، لكن المستشفيات امتلأت بالكامل، وكنا نتنقل من نقطة طبية إلى أخرى من دون أن نجد سريراً فارغاً".
ويستعيد مشاهد مروعة من تلك الليلة: "من بين الحالات امرأة تحمل طفلين بين ذراعيها، ترجّتني قائلة: (خُذوا أولادي قبلي، دعوني أنا وامشوا بهم بسرعة، إنهم يختنقون بين يدي). وفي سيارة مدنية أخرى شاهدت أباً مع أربعة أطفال ينازعون جميعاً. عندها بدأت أشعر أنني أصبت أيضاً، فقدت وضوح الرؤية وبدأت أغيب عن الوعي بين الحين والآخر".
النفس الأخير
في مركز "إحياء نفس" الطبي بزملكا، كان ياسين دبورة (32 عاماً) على رأس عمله حين باغتت الصواريخ بلدته.
يروي: "الموت كان في كل مكان. أطفال ممدّدون على الأرض بلا حراك، أمهات يضممن رُضّعاً فارقوا الحياة بين أذرعهن، أجساد تسقط فجأة في الشوارع، وحتى الحيوانات لم تسلم من الغاز السام. فقدت أكثر من فرد من عائلتي، كما فقدنا كوادر طبية كاملة".
ومع تزايد الإصابات وخروج المركز من الخدمة بحلول الرابعة والنصف فجراً، تحولت محاولات الإنقاذ إلى سباق مع المستحيل. يقول ياسين: "وصل مسعفون من بلدات مجاورة بما توافر لديهم: أنابيب مياه، إبر أتروبين، وإصرار هائل على إنقاذ الأرواح. لكن أمام الموجات المتتالية من المصابين كان عجزنا أكبر من كل ما نملك".
وبعد مرور اثني عشر عاماً، ما تزال تلك الليلة جرحاً مفتوحاً في ذاكرته: "هذه المجزرة لن تُمحى من الذاكرة. كل عام تعود ذكراها لتصبح غصّة في قلوبنا؛ لم نفقد فقط أحبّاءنا، بل فقدنا معها جزءاً من إنسانيتنا".
أرقام الصدمة
بموازاة الشهادات، أصدرت الشبكة السورية لحقوق الإنسان اليوم تقريراً من دمشق لأول مرة منذ 14 عاماً، في ذكرى المجزرة.
أكد التقرير أن قوات النظام أطلقت فجر 21 أغسطس/آب 2013 أربع هجمات بصواريخ محمّلة بغاز السارين على الغوطتين، بكمية قُدرت بـ200 لتر، ما أسفر عن مقتل 1144 شخصاً اختناقاً، بينهم 99 طفلاً و194 سيدة، إضافة إلى 25 مقاتلاً، وإصابة أكثر من 5935 شخصاً.
وأوضح التقرير أن تلك الليلة وحدها شكّلت نحو 80% من مجمل ضحايا الأسلحة الكيماوية في سوريا.
كما أشار إلى أن آثارها لا تزال قائمة حتى اليوم، في شكل أمراض مزمنة واضطرابات نفسية وعيوب نمو لدى أطفال الناجين.
منذ 2012 وحتى سقوط النظام، وثقت الشبكة 222 هجوماً كيماوياً، منها 217 نفذها النظام أودت بحياة 1514 شخصاً وإصابة أكثر من 11 ألفاً، بينما نفذ تنظيم "داعش" الإرهابي خمس هجمات فقط في حلب.