منذ نحو أسبوعين، حصل الفيلم السوداني "وداعاً جوليا" للمخرج محمد كوردوفاني، على جائزة الحرية في مهرجان كان في أول مشاركة للسودان في تاريخ المهرجان، ومن قبلها بعامَين حصدت أفلام: "ستموت في العشرين" و"الحديث إلى الأشجار" و"الخرطوم أوفسايد" عديداً من الجوائز في مهرجانات دولية فيما يعتبر صحوة للسينما السودانية أعقبت الثورة.
وكانت بداية ازدهار السينما السودانية في المهرجانات العالمية عام 2019، حين عُرض فيلم "ستموت في العشرين" للمخرج السوداني أمجد أبو العلا في مهرجان البندقية السينمائي الدولي وحصد جائزة "أسد المستقبل"، ثم في مصر على جائزة "نجمة الجونة الذهبية" لمسابقة الأفلام الروائية الطويلة في مهرجان الجونة السينمائي، وجائزة "التانيت الذهبي" من مهرجان قرطاج بالمغرب، وبعدها توالت النجاحات.
كما حاز فيلم "الست" للمخرجة سوزان ميرغني على جائزة أفضل فيلم قصير في مهرجان "نيو أورلينز" بالولايات المتحدة الأمريكية في 2021، وفاز الفيلم الوثائقي "الحديث إلى الأشجار" للمخرج صهيب الباري بسبع جوائز دولية، أبرزها جائزة اختيار الجمهور في مهرجان برلين السينمائي الدولي لعام 2019، وجائزة لجنة التحكيم الكبرى بمهرجان مومباي السينمائي في الهند في العام نفسه، وشارك الفيلم القصير "طنين" في مهرجان القاهرة السينمائي 2022.
ولفت تألُّق فيلمَي "الحديث إلى الأشجار" و"ستموت في العشرين" في نفس الوقت الأنظار بقوة إلى السينما السودانية وفنانيها، وهو ما أشار إليه الناقد السينمائي رامي المتولي، في حواره مع "TRT عربي"، إذ قال إنّ "صعود الفيلمَين في نفس الوقت، ابتداءً من إنتاجهما ومشاركتهما في المهرجانات والجوائز أدى إلى رواج السينما السودانية التي تملك تاريخاً كبيراً، لكنها تعثرت لفترة زمنية بسبب الأزمات الاقتصادية والسياسية".
بداية السينما السودانية
ربما يتبادر إلى أذهان الجميع أنّ السينما السودانية لم يكن لها وجود قبل "ستموت في العشرين" و"الست" وبقية الأفلام التي تألقت في آخر أربع سنوات، وهذا يعود لقلة ما نعرفه عن تلك الفترة أو لندرة الإنتاج قبل هذه السنوات.
لكنّ تاريخ السينما السودانية يعود إلى عام 1912، إذ شهد السودان أول عرض سينمائي في مدينة الأبيض شمال كردفان في أثناء الاحتلال البريطاني للسودان، وكانت المَشاهد لفيلمٍ قصير وصامت تُعرض على قماشة بيضاء، احتفالاً بمدّ خطوط السكة الحديدية إلى المدينة.
وبعد عامَين شهدت أم درمان عروضاً أخرى للتسلية، وفي نهاية العشرينات ذهبت العروض بطريقة السينما الجوّالة للساحات العامّة والمدارس.
ثم أُسست داران للعرض السينمائي في الخرطوم وهما سينما الجيش التي تغيّر اسمها إلى "النيل الأزرق" لاحقاً، وسينما "اسكيتنج رنج" التي سميّت فيما بعد "كلوزيوم".
أما عن الإنتاج فتأخر قليلاً حتى بداية الأربعينات، والذي بدأ بالأفلام الوثائقية، إذ حاز بعضها على جوائز دولية مثل فيلم "الضريح" لعام 1972 الذي حصد جائزة مهرجان القاهرة السينمائي للأفلام القصيرة، وفيلم "ولكن الأرض تدور" الحاصل على ذهبية مهرجان موسكو عام 1979.
كما شهدت تلك الفترة زيادة في دور العرض التي وصل عددها إلى 67 داراً نهاية السبعينات وبلغ عدد الأفلام التي عرضت في السودان 243 فيلماً حتى عام 1978، لكن مع بداية التسعينات وبتولي حكومة الإنقاذ السلطة تضررت السينما بشكل كبير سواء على مستوى الإنتاج أو تقلص دور العرض وغلق الكثير منها.
تأثير الثورة
إلى ذلك، مُنع قطاع السينما من الإنتاج وأُغلقت دور العرض لفترة، وكان ذلك دافعاً في الإنطلاقة الأخيرة، حسبما أشار إليه المتولي قائلاً: "ما حدث من صحوة وتطور في السينما السودانية، كان عقب فترة من التضييق على الإنتاج ومنعه"، مضيفاً أنّ هذا ما "أدى إلى إعاقة السينما السودانية وعدم انتشارها".
ويشير الناقد السينمائي أيضاً إلى ما يمكن أن نسميه "المخزون السينمائي" الذي تكوّن في هذه السنوات المظلمة، وحين خفَّـت قبضة الحكم المتشدد خرجت هذه الأعمال دفعة واحدة، فيقول رامي: "الثورة لها علاقة بالطبع في حدوث هذه الطفرة، وعلى الرغم من وجود مقاومة قبلها ومحاولات لقيام سينما سودانية فإنّ الإنتاج كان معدوماً في تلك الفترة".
ويستدرك المتولي بالقول: "أما بعد الثورة، تجهز فنانو السودان بالداخل أو الخارج لكتابة وإنتاج أفلام بشكل سريع، وخرجت بصورة جيدة جداً، أفلاماً كانت تستوجب تحضيراً من قبلها وأسساً وبنية تحتية وثقافة سينمائية، وهو بالفعل ما كان موجوداً، وحين انفتح المجال أمامهم ظهرت هذه الأفلام للنور في نفس الوقت".
عقبة التمويل
وفي حوار أجرته مجلة "العربي الجديد" مع المخرج أمجد أبو العلا عقب فوز فيلمه "ستموت في العشرين" بجائزة أسد فينيسيا، إذ قال إنّ أكبر عقبة قابلته هي صعوبة التمويل، والتي قد تستغرق أعواماً.
وأضاف أبو العلا: "لكن كنّا محظوظين بأنّ أول تقديم لمنحة كان لمؤسّسة الدوحة للأفلام، وحصلنا عليها، حينها كانت المؤسسة تشارك في 4 أفلام مُرشّحة لجائزة الأوسكار، وبالتالي فتح الحصول على منحتها الأبواب أمامنا، للحصول على منح أخرى، إذ حصلنا عليها من ألمانيا والنرويج وفرنسا ولبنان ومصر، بالإضافة إلى عدد من ورش تطوير النصّ".
ويتفق مع أبو العلا، الناقد رامي المتولي، بأنّ التمويل هو العائق الأساسي، إذ يقول إنّ "صناعة الأفلام عموماً أصبحت مُكلفة جداً خاصة لو كانت أفلاماً من نوعية السينما السودانية، فغالباً ليس لها أي عائد تجاري كبير وليس لها دورة مال سريعة".
ويسترسل قائلاً: "بالتالي لا تتحمس لها شركات الإنتاج، ما يؤدي إلى تعطل كثير من الأعمال الفنية أو إنتاجها بمجهودات شخصية، أو البحث عن تمويل من جهات عالمية".
وشكّل قرب السودان الجغرافي من مصر، تاريخاً مشتركاً ودعماً متبادلاً وثقافة شعبية متقاربة بدرجة كبيرة، وهذا الدعم ظهر حسبما قاله المتولي في فيلم "ستموت في العشرين"، إذ درَّب الفنانون المصريون الممثلين السودانيين، وعلى رأسهم الفنانة سلوى محمد علي، وكذلك المنتجون المشاركون منهم مصريون، والمخرج المساعد هو الشاب المصري عبد الوهاب شوقي، حسب المتولي.
وفي هذا الصدد يلفت المتولي إلى أنّ "الأفلام تعبّر بالطبع عن الهويّة السودانية في الأساس، ولكن مصر هي الأقرب فكرياً ولوجستياً للسودان، فالمكوّن الثقافي واحد بين البلدَين، ولنا تاريخ مشترك وعلاقات عميقة، وعليه فإن التعاون يأتي سلساً وسريعاً بشكل فردي أو مؤسسي".