فبينما تروّج إسرائيل لنسب متقاربة بين شهداء المدنيين والمقاتلين، تكشف الوثائق أن الغالبية الساحقة من الضحايا بما لا يقل عن 83% هم من المدنيين، ما يضع الحرب في غزة ضمن أكثر الحملات دموية في التاريخ الحديث من حيث استهداف المدنيين، ويثير تساؤلات عميقة حول سياسة "التلاعب بالأرقام" التي اعتمدتها تل أبيب لتبرير هجماتها.
وسبق لتحقيق آخر نشره الموقع الإسرائيلي أوضح فيه أن جيش الاحتلال الإسرائيلي خفف بشكل كبير قيود سقوط الضحايا المدنيين بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول، فسمح بقتل أكثر من 100 مدني فلسطيني في محاولة لاغتيال قائد كبير في حماس، وما يصل إلى 20 مدنيّاً في استهداف عناصر صغار.
ووفقاً لمجلة الإيكونوميست وضع الجيش الأمريكي خلال حرب العراق ما نسبته 30 شخصاً مدنيّاً كضرر جانبي مقابل القضاء على الرئيس العراقي آنذاك صدام حسين.
هذا الأمر يتفق مع سلوك إسرائيل في حربها على غزة، ففي نهاية شهر أكتوبر/تشرين الأول 2023، وتحت مبرر اغتيال إبراهيم البياري، قائد كتيبة "الخلفاء" في كتائب القسّام، قصف سلاح الجو الإسرائيلي مخيم جباليا، الأكثر اكتظاظاً بالسكان في العالم، ما أسفر عن استشهاد أكثر من 120 فلسطينيّاً وإصابة مئات بينهم عشرات الحالات الخطرة، بالإضافة إلى الدمار الواسع الذي لحق بالمخيم.
الأمر نفسه جرى في حالة اغتيال قائد لواء الوسطى في كتائب القسام، أيمن نوفل، بعد أن قصفت قوات الاحتلال حيّاً سكنيّاً كاملاً في المخيم.
آلية الحصر
وفقاً لمعلومات استخباراتية سرية تعود إلى مايو/أيار، تحدثت إلى معدي التحقيق، قدّر جيش الاحتلال الإسرائيلي أنه قتل نحو 8,900 مقاتل في هجماته على غزة، وهو ما يعني أن ما لا يقل عن 83% من ضحايا الحرب كانوا مدنيين.
هذه الأرقام مستقاة من قاعدة بيانات تشرف عليها شعبة الاستخبارات العسكرية (أمان)، والتي يعتبرها جيش الاحتلال المرجع الوحيد الموثوق لتحديد أعداد الشهداء من المقاتلين.
وأكدت مصادر مطلعة للتحقيق أن كل حالة وفاة يجري التحقق منها بشكل فردي، بخلاف التقديرات الأولية الصادرة عن القيادة الجنوبية التي أعلنت أواخر العام الماضي “مقتل نحو 17 ألف مقاتل”، استناداً إلى تقارير ميدانية مضخّمة من الجنود.
ففي إحدى الحوادث في رفح، مثلاً، تسبب جنود الاحتلال الإسرائيلي في استشهاد نحو 100 شخص، بينما أظهرت شهادات من داخل الكتيبة أن عدد المسلحين بينهم لم يتجاوز شخصين فقط.
وفي أبريل/نيسان 2024، ذكرت صحيفة "إسرائيل هيوم" أن عدة أعضاء في لجنة الشؤون الخارجية والأمن في الكنيست شككوا في مصداقية أرقام الجيش، وبعد مراجعة البيانات تبين أن الأرقام أقل بكثير، وأن الجيش ضخّمها "لإيجاد نسبة 2:1" بين المدنيين والمقاتلين.
وقال مصدر استخباراتي رافق القوات على الأرض: "نعلن عن أعداد كبيرة من مقاتلي حماس قُتلوا، لكنني أعتقد أن معظمهم ليسوا مقاتلين فعلاً.. لو صدقت روايات الألوية، لخلصت إلى أننا قتلنا 200% من مقاتلي حماس في المنطقة".
عقب هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول مباشرة، بدأ يوسي ساريئيل، قائد وحدة الاستخبارات الإشارية النخبوية (الوحدة 8200) آنذاك، بمشاركة تحديث يومي مع ضباطه يتضمن أعداد الشهداء من عناصر حماس والجهاد الإسلامي في غزة. ووفق ثلاثة مصادر مطلعة تحدثت للتقرير، عُرفت هذه الإحصاءات باسم "لوحة قيادة الحرب"، واعتُبرت مقياساً لنجاح الجيش.
أحد مرؤوسي ساريئيل أوضح أن القائد كان يركّز بشكل مفرط على "البيانات، البيانات، البيانات"، مع السعي لتحويل كل شيء إلى أرقام لإظهار الكفاءة وإضفاء طابع تكنولوجي على العمليات.
وأضاف مصدر آخر أن المشهد كان أشبه بـ"مباراة كرة قدم، حيث يجلس الضباط يراقبون الأرقام وهي ترتفع على الشاشة".
أرقام صادمة
ووفقاً للتحقيق بالاستناد إلى المصادر التي تحدث معها تضم قاعدة البيانات الاستخباراتية الإسرائيلية قائمة تحتوي على 47,653 اسماً لفلسطينيين في غزة، تصنّفهم شعبة الاستخبارات العسكرية "أمان" كناشطين في الأجنحة العسكرية لحركتي حماس والجهاد الإسلامي.
وتستند هذه القائمة إلى وثائق داخلية خاصة بالحركتين يزعم جيش الاحتلال الإسرائيلي أنه حصل عليها. وبحسب التصنيفات، تضم القائمة 34,973 عنصراً من حماس، و12,702 عنصراً من الجهاد الإسلامي، مع تسجيل عدد محدود لدى الطرفين لكنه احتُسب مرة واحدة فقط في المجموع الكلي.
ووفق البيانات المحدثة حتى مايو/أيار 2025، يزعم جيش الاحتلال الإسرائيلي أنه “قتل نحو 8,900 مقاتل منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول، بينهم 7,330 قُتلوا بشكل مؤكد و1,570 وُصفوا بأنهم على الأرجح قتلى".
وتشير البيانات التي اطلع عليها التقرير إلى أن “الغالبية العظمى من هؤلاء ينتمون إلى الصفوف الدنيا، بينما يُقدّر أن الجيش قتل ما بين 100 إلى 300 قيادي بارز فقط من أصل 750 مدرجين في القائمة”.
ويشير التقرير إلى أنه عند مقارنة البيانات التي تصدرها وزارة الصحة الفلسطينية مع أرقام القاعدة السرية، يمكن تقدير نسبة تقريبية للضحايا المدنيين: “فحتى قبل ثلاثة أشهر، حين بلغ العدد الإجمالي 53,000 شهيد، تبيّن أن أكثر من 83% منهم كانوا مدنيين. أما إذا اقتصر الحساب على الأعداد المؤكدة فقط، فإن النسبة ترتفع إلى أكثر من 86%”.
تخبط في الرواية
بحسب تحقيق الغارديان و+972، حاولت سلطات الاحتلال الإسرائيلي منذ بداية الحرب التخفيف من الاتهامات بارتكاب مجازر، رغم الارتفاع الكبير في أعداد الشهداء.
ففي ديسمبر/كانون الأول 2023، ومع بلوغ الحصيلة 16 ألف شهيد، صرّح الناطق باسم جيش الاحتلال جوناثان كونريكوس لشبكة CNN أن إسرائيل قتلت مدنيين اثنين مقابل كل مقاتل، واصفاً ذلك بـ"النسبة الإيجابية للغاية".
وفي مايو/أيار 2024، مع وصول الحصيلة إلى 35 ألف شهيد، أعلن بنيامين نتنياهو أن النسبة أقرب إلى 1:1، وهو ما أعاد تكراره في سبتمبر/أيلول.
يوضح التحقيق أن أرقام شهداء المقاتلين التي أعلنتها إسرائيل جاءت متقلبة بشكل لافت؛ فبينما قدّر مسؤول أمني في نوفمبر/تشرين الثاني 2023 العدد بأكثر من 10 آلاف مقاتل، جاء تقييم رسمي للحكومة في ديسمبر ليخفض الرقم إلى 7,860.
وفي فبراير/شباط 2024 صرّح المتحدث العسكري باسم جيش الاحتلال بأن قواته قتلت 13 ألفاً من عناصر حماس، قبل أن يخفض الرقم بعد أسبوع إلى 12 ألفاً. ثم أعلن الجيش في أغسطس/آب أنه قتل 17 ألفاً من عناصر حماس والجهاد، لكنه عاد في أكتوبر ليقلّص العدد إلى 14 ألفاً "على الأرجح".
وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2024 صرّح نتنياهو بأن العدد "قريب من 20 ألفاً"، وهو ما أكده رئيس الأركان المنتهية ولايته هرتسي هاليفي في يناير/كانون الثاني 2025. وفي يونيو/حزيران 2025، نقل مركز بيغن السادات عن مصادر عسكرية أن العدد ارتفع مجدداً ليبلغ 23 ألفاً.
ويوضح التحقيق أن النوايا الإسرائيلية بتدمير غزة لم تخفها قياداتها منذ اليوم الأول، ففي صباح 7 أكتوبر/تشرين الأول، قالت زوجة رئيس الأركان حينها هرتسي هاليفي إنه قال لها: "غزة ستُدمَّر".
وفي تسجيل مسرّب بُث على القناة 12 الإسرائيلية قبل أيام، قال مدير "أمان" آنذاك أهارون حليفا: "يجب أن يموت 50 فلسطينيّاً مقابل كل إسرائيلي قُتل في 7 أكتوبر/تشرين الأول، ولا يهم إن كانوا أطفالاً".