في مؤتمره الصحفي الأخير، المنعقد من ملجأ تحت الأرض، وبينما الدخان يتصاعد من طهران، ويقابله ركام في تل أبيب وبيتاح تكفا وحيفا، وسّع نتنياهو سقف خطابه، زاعمًا أن إسرائيل تكتب "تاريخ المنطقة"، وتُحدِث "تغييرًا في ميزان القوى العالمي"، بل وتخلّص البشرية من "خطر الصواريخ الإيرانية" التي -بحسب تعبيره- تهدد أوروبا والولايات المتحدة.
هذا الخطاب الذي يفيض بالثقة ويستند إلى سردية الإنقاذ الكوني، لا يُفهَم بمعزل عن الأهداف بعيدة المدى التي يراهن عليها نتنياهو، ويريد من خلال الحرب على إيران أن يجعلها حقيقة سياسية واستراتيجية، لا مجرد سردية انتخابية أو تعبئة جماهيرية.
الأهداف العلنية التي يروّج لها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لتبرير الهجوم المباغت على إيران تتمحور حول ثلاثة عناوين: القضاء على مشروعها النووي، وتدمير منظوماتها الصاروخية بعيدة المدى، وإزالة ما يُصوَّر كتهديد وجودي لإسرائيل.
هذا السرد، الذي يتقاطع مع مفردات "الحرب الوقائية" و"الردع الاستباقي"، يُستخدم لتسويق العملية على الساحة الدولية، وتهدئة مخاوف الرأي العام الإسرائيلي الغارق منذ أيام في الملاجئ المعزولة.
لكن قراءة أوسع لتصريحات نتنياهو وأركان حكومته تكشف عن أهداف تتجاوز هذه السردية الدفاعية، فالحرب تأتي في سياق محاولة لتعديل موازين القوى إقليمياً، واستكمال مشروع بدأ في غزة ويتطلّع إلى تقويض النظام الإيراني نفسه، بما يخدم تثبيت إسرائيل باعتبارها قوة إقليمية مهيمنة.
لا يمكن فصل هذه الحرب عن التوجّه التاريخي الإسرائيلي نحو فرض الهيمنة، خصوصاً في ظل ظرف سياسي واستراتيجي مُواتٍ من وجهة نظر نتنياهو لتراجع الردع الإيراني، واختلال بنية "محور المقاومة"، والتحولات في سوريا، وانسجام الإدارة الأمريكية مع السياسات الإسرائيلية، وصعود غير مسبوق لحكومة يمينية تدفع نحو الحسم عبر القوة.
هكذا تُوظَّف الحرب، ليس فقط لتقويض قدرات إيران، بل لفرض واقع إقليمي جديد، تُدار فيه التوازنات، لا بالمفاوضات، بل بمنطق السلاح.
الرهان على القوة وجرّ الحلفاء
يُراهِن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على قدرة جيشه، وتحديداً سلاح الجوّ، في حسم المواجهة مع إيران عبر ضربة مباغتة خاطفة تُحدِث أثراً عسكرياً ومعنوياً، وتُرغِم طهران إما على التراجع عن مشروعها النووي وإما على الانزلاق في اضطرابات داخلية تؤدي إلى إسقاط النظام.
حلم الحسم السريع في غضون أسابيع لا يبدو منفصلاً عن قناعة نتنياهو بأن "نجاحه" في الضربة الأولى سيقنع الرئيس الأمريكي دونالد ترمب بالانتقال من الدفاع إلى الهجوم، بل وربما قيادة الحرب بنفسه.
لكن خلف هذا الرهان تكمن مفارقة يدركها نتنياهو نفسه، وهي أن إسرائيل غير قادرة منفردة على إنجاز أهداف الحرب، سواء تلك المُعلنة (وقف البرنامج النووي)، أو غير المُعلنة (تغيير النظام). وحده تدخل أمريكي مباشر -عسكرياً أو دبلوماسياً- قد يفتح الباب أمام اتفاق "أفضل"، أو مواجهة تُفضي إلى نتيجة حاسمة.
ومع ذلك، كما أشار الصحفي الاستقصائي رفيف دروكر في صحيفة هآرتس العبرية، فإنّ ما يفعله نتنياهو لا يعدو كونه مقامرة بمصير الدولة كلها، دون ضمانات حقيقية بأن واشنطن ستخوض الحرب إلى جانبه، بل إنّ شخصيات إسرائيلية بارزة مثل إيهود باراك، الذي أعدّ سابقاً لضربة مشابهة عام 2011، تُبدي شكوكاً في قدرة حتى تحالف أمريكي-إسرائيلي على تحقيق الأهداف التي يتصورها نتنياهو.
تحذيرات الاستراتيجيين في إسرائيل لم تتوقف، فثمة من يرى في "نجاح الضربة الأولى" مجرد فخ إيراني، وينبّه إلى خطر الغرور العسكري والاستخفاف بقدرات طهران، فضلاً عن الإفراط في الرهان على حماس ترمب. صحيح أن الرئيس الأمريكي مفتون بـ"الانتصارات السريعة"، لكنه أيضاً رجل صفقات، لا حروب مفتوحة النهايات.
ولعل المفارقة الأكبر أن مغامرة نتنياهو قد تمنح ترمب منصة تفاوضية جديدة مع إيران، دون أن يكون نتنياهو هو اللاعب الرئيسي فيها. ففي المشهد الدولي تحضر قوى كبرى مثل روسيا والصين، وفي الإقليم دول فاعلة لها حساباتها، فيما تبقى إيران قادرة على امتصاص الضربات وجرّ المنطقة إلى حرب استنزاف طويلة. عندها، قد يجد نتنياهو نفسه محاصراً بالضغوط، لا أمام نصر حاسم، بل أمام تراجع مؤلم، يُفضي إلى تحجيم طموحاته وخياله السياسي الجامح.
الرهان على عامل الزمن
في حسابات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ينبغي أن تكون المواجهة مع إيران قصيرة وسريعة وبأقل كلفة استراتيجية أو بشرية ممكنة. إنه يراهن على ضربة افتتاحية موجعة تفرض واقعاً جديداً خلال أيام، أو أسابيع على الأكثر، وتدفع طهران إلى الخضوع أو الانهيار. لكن هذا الرهان يصطدم بجدار الواقع الإيراني، الذي لم يُبْدِ حتى الآن أي مؤشر على التصدّع.
بعد امتصاص الضربة الأولى، استعادت إيران توازنها، وأظهرت قدرة على احتواء الموقف الداخلي، وترميم شبكات القيادة، والرد بدقة على مواقع استراتيجية داخل إسرائيل. وبينما بدأت الضربات الإسرائيلية تأخذ طابعاً روتينياً لا يغيّر في المعادلة سوى في التفاصيل، عادت المبادرة تدريجياً إلى الملعب الإيراني.
إيران، على ما يبدو لا تسعى إلى توسيع المواجهة، بل إلى إدارتها بأدوات متعددة، توازن فيها بين الردع العسكري والانفتاح السياسي. خطابها موجه بعناية: تصعيد ضد إسرائيل، وهدوء محسوب تجاه الولايات المتحدة، حرصاً على عدم منح نتنياهو الفرصة لجرّ واشنطن إلى المعركة.
رهان طهران الأساسي هو الزمن، فكلما طال أمد الحرب اقترب نتنياهو من دائرة الاستنزاف، داخلياً على مستوى الجبهة الداخلية، وإقليمياً في علاقاته المتوترة، ودولياً مع حلفائه الذين قد لا يحتملون سياسة الأمر الواقع التي يحاول فرضها. وتزداد في المقابل خشية إدارة ترمب من أن يتحول الانحياز غير المشروط لإسرائيل إلى مغامرة مكلفة لا تحظى بغطاء استراتيجي قابل للتسويق.
الرسائل الإيرانية باتت أوضح، الليلة أطلقت عدداً محدوداً من الصواريخ، لكنها حمّلتها إشارة رمزية إلى أنها لا تسعى إلى الحسم السريع، بل إلى إعادة رسم قواعد الاشتباك على مدى طويل. تماماً كما فعلت في حرب الثمانينيات ضد العراق، فإنها تُعِدّ لمواجهة "ألف يوم"، لا لحرب "خمس ليالٍ".
الفارق بين الزمنين الإيراني والإسرائيلي يكشف أن القرار النهائي قد لا يكون في يد أي منهما، ففي نهاية المطاف ستكون الكلمة لواشنطن، ومواقف الدول الكبرى في الإقليم، التي لا تنظر إلى الحرب بمنظار تل أبيب وحدها، بل كمفصل استراتيجي قد يُعيد تشكيل توازنات المنطقة بالكامل.
جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كتّابها، ولا تعبِّر بالضرورة عن TRT عربي.